الاثنين، 29 يونيو 2009

الأحد، 28 يونيو 2009

feedzilla

السبت، 27 يونيو 2009

انتخبات الرئاسة في جورجيا والفرصة الأمريكية الأخيرة


انتخابات الرئاسة في جورجيا آخر هدية أمريكية إلى سآكاشفيلي
04/01/2008 17:01

بقلم أشرف الصباغ
يبدو التمسك الظاهري للإدارة الأمريكية بالرئيس الجورجي ميخائيل سآكاشفيلي مناقضا لكل الأعراف السياسية، وخاصة بما عرف عن الولايات المتحدة من "ذكاء وبعد نظر" وحرص على مصالحها في كل مكان. غير أن الأبعد من ذلك قد يبدو مثيرا للدهشة، إذ أن واشنطن تبحث فعليا عن بديل لسآكاشفيلي الذي استنفد جميع أوراقه تقريبا، إلا أن سآكاشفيلي الذكي والطموح يعرف كيف يضع البيت الأبيض أمام الأمر الواقع. فقد نظف جورجيا بالكامل من الشخصيات التي يمكن أن تكون بديلة له لسنوات طويلة مقبلة.
فسآكاشفيلي يفهم السيناريوهات الأمريكية جيدا، والولايات المتحدة أمام أمر واقع لا تستطيع الإفلات منه، خاصة وأنها تريد أن تبرهن لكل حلفائها أنها لا تتخلى بسهولة عنهم مهما كان الأمر. ومع ذلك فسيناريو البحث متواصل ومستمر، وسآكاشفيلي يدرك ذلك جيدا.
إذن، تبقى الانتخابات الرئاسية في جورجيا ورقة توت أخيرة تخفي بها الولايات المتحدة عورتها الجورجية ـ الديمقراطية، كما تبقى الورقة الأخيرة لسآكاشفيلي نفسه الذي يبدي يوميا استعداده لعمل أي شيء من أجل البقاء في السلطة حتى ولو ضرب شعبه بالرصاص الذي لا تؤيده الإدارة الأمريكية.
ومن جهة أخرى تتصرف المعارضة الجورجية (الضعيفة والمهلهلة) بصورة ليس لها علاقة إطلاقا لا بالسياسة ولا بمصالح بلادها. فقد دخلت الانتخابات الرئاسية موزعة على عدد من المرشحين الذين يعملون بشكل رئيس في البيزنس. وليس بين مرشحي المعارضة المفتتة واحد على الأقل دخل مجال السياسة الكبرى. ويبدو أن ما يتردد في كواليس رجال الأعمال الجورجيين صحيح. فالمسألة ثأر شخصي من سآكاشفيلي، لأنهم ملوا من دفع الإتاوات طوال السنوات الأربع الماضية. ومنهم من فقد أمواله بسبب تعنته في عدم التسديد. وهناك أيضا من فقد حياته.
إن عودة سآكاشفيلي إلى سدة الرئاسة في جورجيا تشكل ضربة إضافية إلى "مصداقية!" الولايات المتحدة كمؤسسة ديمقراطية. والحديث لا يجري الآن حول العراق أو أفغانستان أو إيران أو السودان، بل عن دولة فقيرة ومعدمة تقف في المرتبة الثالثة بعد إسرائيل ومصر في قائمة الذين يحظون بالمساعدات الأمريكية إذ تصل الإعانات الأمريكية لجورجيا ضمن برنامج "تحديات الألفية" إلى 300 مليون دولار فقط، ومع ذلك تضعها في المرتبة الثالثة من حيث نصيب الفرد.
وهنا يبرز العامل السياسي في مظاهر اهتمام الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بجورجيا وتدليل رئيسها بشكل أصبح سابقة في سيناريوهات التدليل الأوروأمريكية. فتارة يجري الحديث عن انضمام جورجيا ـ سآكاشفيلي إلى الاتحاد الأوروبي، وتارة إلى حلف الناتو. ويبدو أن القرارات بهذا الشأن تتخذ في دائرة ضيقة تماما، لأن مواطني الاتحاد الأوروبي في غاية الامتعاض ولم يعد ينقصهم إلا ضم جورجيا لكي يعلنوا صراحة عن اعتراضهم، على الرغم من أن هذا الضيق تجلى عندما تسربت دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد في غفلة من التاريخ، ثم تلقفها حلف الناتو ليصنع جدارا فاصلا بين الدول الأهم فيه وبين أعداء وهميين محتملين.
وهناك أيضا دول أوروبية غير مرتاحة من انضمام جورجيا، وحتى أوكرانيا، سواء إلى الاتحاد الأوروبي أو إلى حلف الناتو. ولكن الدائرة الضيقة التي تتخذ القرار في هاتين المؤسستين قادرة على الإقناع: إقناع الأنظمة السياسية وليس الناخب الأوروبي الذي تأثرت أحواله الاقتصادية ـ المعيشية المباشرة بانضمام دول أوروبا الشرقية.
وبالعودة إلى جورجيا ـ فهي تحصل سنويا على 2 مليار دولار كتحويلات مالية من المواطنين الجورجيين العاملين في روسيا. فأين تذهب هذه الأموال في دولة صغيرة يعرف الناس فيها بعضهم البعض بالاسم والعائلة؟ وإذا كان مبلغ 300 مليون دولار يدفع الرئيس سآكاشفيلي إلى إراقة دماء مواطنيه في الساحات العامة ويمنحه القدرة على اختراع حرب أهلية في بلاده التي يتغنى بديمقراطيتها، فهل يمكن أن نتصور أن جزءا من الـ 2 مليار دولار التي تأتي من روسيا تذهب أيضا إلى دعم مواقف سآكاشفيلي؟ من الصعب تصديق ذلك، ولكن الذي يمكن أن نصدقه هو أن الإتاوات المفروضة على رجال الأعمال الجورجيين تذهب كلها إلى جيوب أفراد بعينهم في مؤسسة الحكم في تبليسي.
لقد تصور الرئيس الجورجي ميخائيل سآكاشفيلي أن منظمة (جواام) التي تأسست في يوم من الأيام من جورجيا وأوكرانيا وأذربيجان وأوزبكستان ومولدافيا يمكن أن تشكل ورقة سياسية ـ اقتصادية رابحة للغرب عموما في الفضاء السوفيتي السابق، وشوكة في خاصرة روسيا على وجه التحديد. ولكن بخروج أوزبكستان من تلك المنظمة وعودتها إلى المنظمات الإقليمية الناشطة في المنطقة، سقطت (ألف) من كلمة (جواام) وأصبحت (جوام) فقط. وبقيت الدول التي تعاني من مشاكل انفصالية حقيقية: أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في جورجيا، وبريدنستروفيه في مولدافيا، وكاراباخ في أذربيجان. إضافة إلى أوكرانيا المهددة بالانقسام والمليئة بالمشاكل السياسية والاقتصادية، وهي نفس المشاكل التي تغرق فيها بقية الدول الثلاث الأخرى.
وإن منظمة (جوام) بقيت بمثابة ورقة يمكن استخدامها بين الحين والآخر. وبقيت أيضا مشاكل دولها، بل وأصبحت تتفاقم تدريجيا. فكل دولة من دول هذه المنظمة مشغولة بكوارثها الداخلية ـ السياسية والاقتصادية والانفصالية، ناهيك عن جورجيا التي يسعى رئيسها الشاب إلى أداء أي دور بحجة الحفاظ على مصالح الشعب الجورجي. وهو نفس الشعب الذي جاء به منذ عدة سنوات أملا في التغيير. ولكن عندما حصل الشاب على فرصته، ولكن فشل فشلا ذريعا، أراد الشعب نفسه الاستغناء عنه. ولكن هذا المطلب قوبل بالرصاص الذي لم يعره لا الاتحاد الأوروبي ولا البيت البيض الأمريكي أهمية.
والانتخابات الرئاسية الجورجية ستأتي بميخائيل سآكاشفيلي رغما عن الشعب الجورجي والمعارضة المشتتة. وسيأتي سآكاشفيلي من وراء ظهر أوروبا والولايات المتحدة بعد أن أغمضتا عيونهما. وسيكون في هذه المرة قويا وأكثر ثقة بنفسه وبتصرفاته. وسيدفع الثمن شعبا أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. والشعب الجورجي نفسه ليس مسؤولا عن مجيء سآكاشفيلي، بينما المعارضة القبلية تتحمل المسؤولية سوية مع الحلفاء الغربيين الذين قد يفتر اهتمامهم قريبا بشخصية الرئيس الجورجي الجديد/القديم ـ سآكاشفيلي.
http://ar.rian.ru/analytics/articles/20080104/95377519.html

الروائي والكاتب الروسي فالنتين راسبوتين


إلى نفس الأرض.. كتاب للروائي الروسي راسبوتين


أشرف الصباغ*
قامت دار نشر "فاغريوس" الروسية بإصدار طبعة ثانية من المجلد الجديد الذي يتضمن مجموعة من القصص الجديدة للكاتب الروسي فالنتين راسبوتين، والذي صدرت طبعته الأولى في ديسمبر/ كانون الأول 2000.
ونظرا لأن الكاتب منشغل في السنوات الأخيرة بالعمل الاجتماعي الذي يراه جزءا لا يتجزأ من العمل الإبداعي، أصبح قليل الإنتاج على مستوى الكم وبالتالي جاء كتابه الأخير "إلى نفس الأرض" متضمنا بعض القصص والروايات القديمة نسبيا والتي نشرت من قبل في مجموعات أخرى مثل "المهلة الأخيرة" و"دروس الفرنسية" وإلى جانبها "منزل ريفي" و"مهنة جديدة" و"رؤية".
وتتضمن القصص الأخيرة التي كتبها راسبوتين في السنوات الأخيرة حالة من الكشف والتوغل في قاع روسيا الجديدة التي يرفضها الكاتب رغم عشقه لها, فـ"منزل ريفي" (1999) هو روسيا الواسعة بكل تناقضاتها وفي جميع مراحلها وبالذات في السنوات الأخيرة.
أما "مهنة جديدة" (1998) فهي عبارة عن تجليات الافتراق والاختلاف والتشتت والتلاشي وكل التعبيرات الدالة على "السقوط" بمعناه الفلسفي الأخلاقي المادي، والحديث يدور في هذا العمل الإبداعي حول الدولة والأرض والإيمان والتاريخ والتشريعات واليقين والأفكار.
وتأتي القصص الأخرى في إطار الشجاعة الراسبوتينية المثيرة لإزعاج محبي الاستقرار وأنصار "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، والمفزعة للقراء الذين يسلمون أنفسهم لأبحاث راسبوتين الاجتماعية الفلسفية مؤمنين تماما بأنه لن يقودهم إلى المجهول بقدر ما سيتجول بهم في أنحاء روسيا الواسعة، كاشفا عما يحاولون إغماض عيونهم عنه بالتلفزيون والسينما والمخدرات والديسكو والفودكا.
وكان راسبوتين حصل عام 2000 على جائزة سولجنيتسين الأدبية، في سابقة هامة أثارت اهتمام الدوائر الأدبية الروسية والأوروبية في الفترة الأخيرة. هذه الجائزة تقرر منحها في أكتوبر/ تشرين الأول 1997، وحصل عليها لأول مرة الأكاديمي فلاديمير نيكولافيتش توبوروف عام 1998. وفي عام 1999 حصلت عليها الشاعرة إينا ليسنيانسكايا.
غير أن الجائزة في هذه المرة جاءت في جوهرها مخالفة لكل التوقعات، بل وتعتبر الأولى من نوعها نظرا لحصول كاتب معاصر عليها. والجائزة تختلف عن العديد من الجوائز الأدبية الكثيرة في روسيا وأوروبا وتشبه في الكثير من جوانبها جائزة نوبل.
ويعود حصول راسبوتين على جائزة سولجنيتسين -كما جاء في كلمة لجنة التحكيم- إلى قدرته على "التعبير الثاقب والحاد عن شاعرية الحياة الشعبية وتراجيديتها، والجمع بين الطبيعة الروسية والخطاب الروسي، والإحساس الروحي والحكمة في نشر مبادئ الخير والجمال". أما الأسباب التي أثارت اهتمام الدوائر الأدبية الروسية والأوروبية فترجع إلى أن اسم راسبوتين ككاتب وشخصية اجتماعية وسياسية نشطة، مرتبط بتوجهات اجتماعية وسياسية وفكرية محددة لا تتوافق مع الأفكار والأيدولوجيات الجديدة السائدة.
ومع ذلك فقد حاز قرار اللجنة على ترحيب شعبي ضخم لأن الجائزة تعبر في المقام الأول عن اختيار إبداعي أخلاقي قيمي. وفالنتين غريغوريفيتش راسبوتين -بدون شك- يعتبر أهم كاتب روسي في النصف الثاني من القرن العشرين.
وكان راسبوتين أيضا قد حصل مؤخرا على وسام الاستحقاق الوطني من الدرجة الرابعة خلال الحفل الذي أقامه الكرملين وقام فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتسليم الجوائز والأوسمة.
ولعل رواياته "المهلة الأخيرة" و"نقود لماريا" و"عش وتذكر" و"وداعا ماتيورا" أكبر مؤشر على امتزاج أدب راسبوتين وفكره الفلسفي والاجتماعي بالثقافة الشعبية الروسية. بل وتعتبر العديد من قصصه القصيرة مثل "دروس اللغة الفرنسية" و"العجوز" و"رودولفيو" وغيرها من أهم القصص التي تنتمي إلى الأدب الروسي العاطفي، الأمر الذي جعلها إلى جانب رواياته تدخل إلى البرامج الدراسية في المدارس الروسية منذ أكثر من 20 عاما.
وقد حاولت وسائل الإعلام الروسية منذ بداية التسعينات -نظرا لانتماءاته الفكرية- دفع اسمه وإنتاجه الأدبي إلى دائرة الظل, ولكن نشاط الكاتب الإبداعي والاجتماعي وقف أمام الآلة الإعلامية الروسية الجديدة بصلابة نادرة.
ولد فالنتين راسبوتين يوم 15 مارس/ آذار 1937 في قرية "أوستا أودا" على نهر أنغارا بمقاطعة إرقوتسك في سيبيريا، وأنهى دراسته بجامعة إرقوتسك عام 1959 في كلية الآداب والتاريخ. وفي الفترة من عام 1958 حتى 1966 عمل بالصحافة في كل من إرقوتسك وكراسنويارسك، ففي عام 1958 عمل مراسلا لجريدة "الشباب السوفياتي" وفي عام 1959 بدأ العمل بالتلفزيون، ثم مراسلا لصحف أخرى.
وفي عام 1961 صدرت له أولى مجموعاته القصصية بعنوان "نسيت أن أسأل ليوشكا". وصدرت مجموعته الثانية "إنسان من العالم الآخر" عام 1965. وفي عام 1966 صدرت له ثلاثة كتب دفعة واحدة تضم مقالاته عن سيبيريا وحياة الجيولوجيين وعمال البناء.
لم تتأت شهرة راسبوتين فقط من إبداعاته الأدبية، ولكن إلى جانب كل ذلك أكدتها مؤلفاته الأخرى ومقالاته وكتبه التي وضعته على طريق أجداده المشاكسين الذين كانوا يحشرون أنوفهم في كل شيء مما كان يغضب قياصرتهم ورؤساءهم على الدوام.
ففي عام 1969 ظهر كتابه "مصيري سيبيريا"، ثم "ذكريات عن نهر" (1971)، وفي عام 1972 ظهر كتاب "إلى أسفل وإلى أعلى مع التيار". ويتناول في "مصيري سيبيريا" سيبيريا من ناحية أيكولوجية وليس من سمعتها المنتشرة كمنفى. ومع ذلك فتسمية الكتاب بهذا الشكل تدفع إلى التداعي بصورة أو بأخرى. إن سيبيريا تشكل إحدى أهم المعضلات وأخطرها في حياة روسيا منذ ما قبل بطرس الأول ويكاترينا الثانية، وذلك من حيث موقعها وأهميتها وثرواتها التي لم يتم الكشف عنها حتى النهاية.
وتشكل من ناحية أخرى في وعي الإنسان الروسي مظهرا من مظاهر النفي الذي يمتلك في مخيلة الإنسان العادي والكاتب -على حد سواء- أبعادا مأساوية يمكنها ببساطة أن تحيلنا إلى العديد من التداعيات الخاصة بمصائر الكتاب الروس.
إضافة إلى كل ذلك ففي جميع أعماله الإبداعية وحتى في كتبه يوجد عالم روحي خاص حيث تتشكل نماذج أبطاله أساسا بكينونة محددة، الأمر الذي يجعل فيها الحكم الأول والأخير لضمير الإنسان. وعموما فهذه الخصوصية بالذات موجودة بوضوح في أعماله "المهلة الأخيرة" و"عش وتذكر" والتي أكملها بروايته الانتقادية الحادة "الحريق" عام 1985 ونال بها جائزة الدولة للمرة الثانية.


الشاعر الداغستاني - السوفيتي رسول حمزاتوف


رسول حمزاتوف.. شاعر جبلي غنى للقيم والجمال

أشرف الصباغ*
استطاع رسول حمزاتوف أن يصنع تراثا إنسانيا خالدا بكل المعايير حتى أن جائزة نوبل تخجل تماما من عرض نفسها عليه، وهو في كل الأحوال لا يهتم بها ويرى أن الشاعر لا يصنعه أحد.
حمزاتوف هو أحد الشعراء الكبار مثل أصدقائه ناظم حكمت وبابلو نيرودا ولويس أراغون والجواهري، ومن إحدى عباراته البسيطة تماما يمكن اكتشاف مدى عبقريته الفذة كشاعر وإنسان وحكيم.
يقول الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف "ليس الكاتب من يستطيع توظيف التراث، بل الذي يصنعه" وبالتالي أصبحت جمله الشعرية جزءا من التقاليد والتراث اليومي المتداول مثل الأمثال الشعبية والحكم، إضافة إلى جمالياتها الفنية التي استطاعت أن تملأ الفراغ الخانق بعد رحيل يسنن ومايكوفسكي وغوميلوف وبلوك وتسفتايفا وأخماتوفا ومجموعة المستقبليين الروس.
ولد حمزاتوف عام 1923 في قرية تسادا الصغيرة القائمة على قمة جبل بداغستان، وفي عام 1950 أنهى الدراسة في معهد جوركي للآداب في موسكو وصدر ديوانه الأول باللغة الآفارية قبل أن يتم العشرين من عمره, وعمل نائبا بمجلس السوفيات الأعلى ورئيسا لاتحاد كتاب داغستان، وحصل على لقب شاعر الشعب عام 1958 ثم على جائزة لينين وجائزة لوتس الأفروآسيوية وجائزة نهرو. ورغم ذلك فهو لا يهتم كثيرا بالجوائز ويرى أنها ليست القيمة الحقيقية للكاتب الحقيقي خاصة إذا كان شاعرا.
كتب حمزاتوف ما يقرب من 30 ديوانا شعريا بدأها عام 1943 بديوان "الحب الحار والكراهية الحارقة" وصدر ديوانه الأخير عام 1994 بعنوان "المهد والوجاق". ولعل نشأة حمزاتوف الجبلية منحته مجموعة من الصفات الجامحة والقوة الروحية الهائلة فهو شاعر ومحارب وحكيم وقديس وأب حنون وزوج مطيع رغم أنه شاعر.
ويبدو أن عام 1998 كان عام الاحتفال الأخير بشاعر وهب العديد من شعوب الاتحاد السوفياتي السابق وعلى الأخص شعوب القوقاز، إرثا روحيا أصبح جزءا لا يتجزأ من التراث العام لهذه الشعوب.
فقد خصصت له صحيفة "الثقافة" الروسية صفحة كاملة بمناسبة مرور 75 عاما على ميلاده، وانضمت إليها صحيفة "فيك" والجريدة الأدبية الروسية بعد ذلك كفت الصحف والمجلات خلال السنوات الثلاث الأخيرة عن تناول أخبار حمزاتوف, فهل تناساه المثقفون وعشاق شعره؟ أم أن الانشغال بحروب القوقاز جعل الجميع ينسون بعضهم بعضا؟ أسئلة كثيرة يمكن طرحها، ولكننا نفاجأ بأن الأطفال الصغار يحفظون أشعاره, فمن أين كل هذا التأثير؟!
من الواضح أن حمزاتوف عندما قال إن الكاتب هو الذي يصنع التراث كان يدرك جيدا مدى ما تحمله هذه العبارة من حكمة تاريخية جبلية.
أما الجانب السياسي الاجتماعي في حياة رسول حمزاتوف فيعتبر الجزء الهام في تركيبته الشخصية مثل أي كاتب أو شاعر عظيم لا ينفصل لديه الإبداع عن العمل السياسي الاجتماعي.
ورغم نشاطاته السياسية الاجتماعية أثناء وجود الاتحاد السوفياتي فإنه كان ضد انهياره, ولعل سقوط التجربة السوفياتية ترك أثره البالغ عليه كشاعر وسياسي في آن واحد. كما صرح في المقابل بأنه ضد العديد من ممارسات الحزب الشيوعي السوفياتي، وكثيرا ما وقف ضد قرارات اللجنة المركزية وساند المطالبين بإلغاء الرقابة ونقد النظام السياسي في البلاد.
من أنصع مواقف الشاعر رسول حمزاتوف مساندته لمجموعة فيلم "نحن الموقعون أدناه" بل وطالب بمنح الفيلم جائزة الدولة. وأثناء التصويت اتضح أن الأقلية كانت إلى جانبه.
وحاول البعض تهدئته بقولهم "لقد أظهرتم موقفكم من الفيلم ومبدئيتكم تجاه الكلمة الصادقة" فأجاب حمزاتوف "نعم، لدينا مبدئية، ولكن تنقصنا العدالة". وكم كانت له مواقف هامة وخطيرة في علاقته بخورتشوف وبدجورني إلا أن حمزاتوف كان بحجم دولة كاملة، ومن هنا تحديدا نجا من العديد من المهالك رغم إصراره على الوقوف دوما عند المنحنيات الخطرة في التاريخ.
وعندما دقت حروب القوقاز الأخيرة أبواب البيوت الجبلية الهادئة تأكد حمزاتوف أن أسوأ نتائج انهيار الاتحاد السوفياتي هي النزاعات القومية التي لم تسلم منها روسيا ولا أي دولة أخرى, فهو يريد الهدوء والأمان لروسيا ولكنه في ذات الوقت يريد أيضا الحرية لبلاده خاصة أن سكانها مثل الخيول الأصيلة لا يستطيعون العيش تحت أي سيطرة.
لم يكتب رسول حمزاتوف شعره بالروسية ولكن جميع دواوينه ترجمت إليها ماعدا الدواوين الثلاثة الأخيرة, وهو الآن لا يثق في المترجمين لأنهم -كما يقول- يعملون بشكل سيئ ولأن المترجمين الجيدين لم يعودوا موجودين.
فهل فعلا الأمر كذلك؟ أم أن منحنى التاريخ في بداية القرن الحادي والعشرين يتخذ مسارا مغايرا للشعر والحرية والوطن والحب والناس؟ إن شعر حمزاتوف سيجيب في الوقت المناسب على مثل تلك الأسئلة الصعبة خاصة أن أعماله الكاملة والمختارة في كتب طلاب المدارس والمعاهد الأدبية وعلى أرفف المكتبات الشخصية في بيوت جميع القوميات بروسيا.
يعاني الشاعر رسول حمزاتوف الآن من مرض خطير بالجهاز العصبي جعله شبه مقعد وقلل كثيرا من نشاطه العضوي، ومع ذلك لا يكف الرجل عن ممارسة النشاط الذهني وإن لم يعد يكتب الشعر.

مظاهرات أبريل في مصر والثورات الافتراضية


القاهرة 31: ثورة في عالم افتراضي
14/04/2008 10:54

بقلم: أشرف الصباغ
في 18 و19 يناير عام 1977 خرج المصريون في هبة تاريخية ضد رفع أسعار الخبز، ما أدى إلى نزول قوات الجيش إلى الشوارع لقمع ما أسمته الحكومة المصرية آنذاك بـ(انتفاضة الحرامية). وقد يظل التاريخ يذكر هذه الخطوة من جانب القوات المسلحة المصرية التي كان آخر مواجهاتها ضمن مهماتها الأساسية في 6 أكتوبر عام 1973. وبعد 31 عاما وعدة أشهر خرج المصريون في العالم الافتراضي الجديد (عالم الإنترنت) لنفس الأسباب تقريبا.
في 18 يناير عام 1977، وبعد عدة ساعات من بدء حشود المصريين مسيراتها في الشوارع والأزقة والميادين مطالبة بتخفيض أسعار الخبز، ارتفعت شعارات سياسية أخرى، مثل ضرورة استقالة الحكومة، وإنهاء حكم أنور السادات، ووقف سياسة الانفتاح الاقتصادي، والتخلص من حاشية رئيس الدولة والمقربين منه. وكانت المدارس والجامعات المصرية آنذاك مقسمة بين القوى الدينية التي أطلق لها أنور السادات العنان لمواجهة المد اليساري، وبين قوى اليسار المختلفة. وبحلول يوم 19 يناير كانت قوات الجيش والشرطة قد أنجزت مهمتها لقمع ملايين (الحرامية) الذين خرجوا للمطالبة بخبز يتلاءم مع قدراتهم الاقتصادية المتدنية إلى ما تحت خط الفقر. وعاش المصريون طوال السنوات التي تلت ذلك يقتاتون على أشكال وأنواع من الخبز يقشعر لها البدن. لم يتقدم حزب أو (منبر)، ولم تتقدم حركة أو قوة دينية لأخذ زمام المبادرة وقيادة الشارع الهائم على وجهه. ورأى البعض أن القوى السياسية (اليسارية أو الدينية) ضيعت فرصة تاريخية لإعادة بناء مصر. والفكرة ببساطة أن هذه القوى لم تكن تعرف أي شيء عن تلك الخطوة من جانب (الحرامية)، أي أنها لم تنظم هذه الهبة الجماهيرية. وبالتالي انتهت الأمور خلال 48 ساعة. وبعد عدة أشهر من نفس السنة، بدأت مرحلة أخرى جديدة من تاريخ مصر بخطوة أنور السادات (التاريخية) نحو تل أبيب بمباركة من واشنطن التي أصبحت المستشار الأكثر ثقة لدى السادات.
في نفس السياق نجحت العديد من القوى السياسية في استثمار ما حدث وأصبح جزء لا يتجزأ من تاريخ هذه القوى، وكان أغلبها من اليسار. بينما غرقت القوى الدينية، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، في تدبير خطط وخطوات أخرى بدأت باغتيال أنور السادات نفسه في 6 أكتوبر عام 1981.
بعد 31 عاما خرج المصريون لنفس السبب ولكن بشكل أكثر تنظيما وإن لم يكن هناك أي دخل أو تدخل من جانب القوى السياسية الرسمية (يمين أو يسار أو قوى دينية). ومن الواضح أن هناك قوى جديدة تسعى لتنظيم نفسها عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة. فالرسائل عبر الهواتف المحمولة وشبكة الإنترنت لعبت دورا لا بأس به في ترتيب وعي الناس، إذا جاز التعبير، وأصبحت الجماهير على علم بكل ما يجري تقريبا. علما بأن القوى السياسية الرسمية كررت نفس موقف أو حالة يناير 1977. غير أنه من الملاحظ في الهبة الجديدة أنها حملت طابعا اقتصاديا محضا، وسيطرت الشعارات التي تطالب بتخفيض أسعار الخبز، وتحسين مستوى المعيشة. والحقيقة أن الكلام يدور حول هذا الموضوع منذ الانتفاضة الأولى عام 1977. وفي نهاية أغسطس وبداية سبتمبر 2007 عمت القاهرة موجة خافتة من الأحاديث حول إمكانية اندلاع انتفاضة شعبية مرتبطة بالدرجة الأولى بارتفاع أسعار الخبز. وكانت أسعاره قد ارتفعت بالفعل في بعض مناطق القاهرة. غير أن مصادر حكومية خرجت على وجه السرعة لتنفي أي ارتفاع في أسعار السلعة الأساسية التي يعيش عليها المصريون من بداية نشأتهم. ولم يتطرق المصدر إلى أي شيء آخر يخص أنواع الخبز المطروحة في الأسواق، وهذا حديث آخر، لأن أنواع الخبز قد تتسبب في مظاهرات أخرى.
لا شك أن القوى الدينية، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، تحتل المساحة الأكبر في الساحة السياسية المصرية، إن لم تكن القوة الوحيدة الأكثر تنظيما يعد الحزب الوطني الحاكم في مصر. والصراع في حقيقية الأمر على السلطة يدور تحديدا بين هاتين القوتين. بينما تلاشت القوى اليسارية الحقيقية بفعل عوامل كثيرة معروفة للجميع، وما زالت فصولها تتوالي أمام أعين الكل ليس فقط في مصر بل وفي جميع دول العالم. لدرجة أن توصيفات مدهشة ظهرت في الآونة الأخيرة من قبيل "اليسار الموالي للنظام السياسي الحاكم!"، و"الغزل بين الإخوان والسلطة الحاكمة"، و"الناس يسيرون خلف القوى الدينية ليس حبا فيها أو قناعة بما تطرحه، بل بنتيجة الفساد السياسي والاقتصادي في مصر"..
في احتجاجات 6 أبريل 2008 اقتصرت مطالب الناس في مصر على الجانب الاقتصادي، وغاب الشق السياسي تماما. أي أن الحكومة نجحت فعليا في دفع الناس إلى الاتجاه المطلوب. ويبقى الجزء الثاني متوقفا على عامل الزمن. كل ذلك على خلفية تكاد تكون مرعبة بالفعل لتاريخ، وفي تاريخ، مصر السياسي. فاليسار (الرسمي) الذين يصفونه بالموالي للحكومة أبعد عن نفسه شبهة التدبير والتنظيم والقيادة، بل وطالب بأن يعلن المنظمون عن أسمائهم وهوياتهم! وأغلقت القوى الدينية، وبالذات الممثلة في البرلمان، والتي تكاد تقود الشارع المصري، أبوابها على نفسها وكأن ما يجري هو من قبيل الانتقام الإلهي، أو في أحسن الأحوال يجري في دولة أخرى، بينما المصريون في مصر منحوا هذه القوى في الانتخابات البرلمانية 88 مقعدا.
من هنا تحديدا ينطبق وصف (الافتراضي) على ما جرى، وقد يجري في الفترة المقبلة. فالقوى السياسية التي تطرح نفسها، ليس طبعا كبديل للسلطة الحالية في مصر، وإنما كمعادل لبعضها البعض في احتلال المساحة السياسية الأكبر من أجل مساومة السلطة على الناس، هذه القوى غير موجودة بالمعنى السياسي. والأحداث الأخيرة أزالت عنها آخر ورقة توت كانت تستر عورتها بها. وتنظيم الاحتجاجات تم عن طريق الواقع الافتراضي من جانب أفراد أو مجموعات غير معروفة، على الأقل بالنسبة للناس ولوسائل الإعلام على حد سواء.
المثير في الموضوع، أن دخل مصر من 3 مجالات هامة (السياحة وقناة السويس والغاز الطبيعي) يمكن أن يلعب دورا محوريا في موضوع التنمية الاقتصادية والاجتماعية! والأكثر إثارة أن مصر أصبحت تستورد القمح والقطن والأرز بعد أن كانت تصدرها! هذا الكلام وإن كان يبدو مجتزأ أو منزوعا من سياقه، إلا أنه يحمل مضمونا يرتبط بشكل مباشر بموضوع المطالب الاقتصادية حصرا المطروحة في الاحتجاجات الأخيرة في مصر ونجاح الحكومة في توجيه الناس بعيدا عن السياسة والمطالب السياسية. وبالتالي يتجسد الآن البديل الأكثر قوة وقدرة على المناورة في تلبية المطالب الاقتصادية البسيطة جدا. وإذا كان ما يدور منذ سنوات، فيما يتعلق بالبديل المقبل في مصر، افتراضيا، فقد أصبح الآن أمرا واقعا بعد تخلى اليسار عن برامجه الأساسية وقواه الجماهيرية، وعودة القوى الدينية إلى شقوقها وبالذات فيما يتعلق بالموضوع الاقتصادي-الاجتماعي المرتبط مباشرة بحياة الناس، لأن الحياة في الآخرة وليست في الدنيا!
الباب أصبح الآن مفتوحا على مصراعيه أمام البديل المطروح، لأنه الوحيد الذي أصبح واقعيا بعد خلافات وصراعات نظرية-افتراضية طوال السنوات الماضية، ولأنه الوحيد القادر على استبدال السياحة ودخل قناة السويس والغاز الطبيعي بأجولة القمح والأرز وما يستر عورات المصريين صيفا وشتاء. ولكن السؤال: هل يمكن أن يستمر هذا البديل، المقبل لا محالة، في ظل معادلة بدائية بهذا الشكل؟!

في ذكرى الشيخ إمام عيسى

صباح الخيرات يا عم إمام
الغائب في ذكرى حضوره العاطر


بقلم :د. أشرف الصباغ

إذا تحدثنا عن فن الموسيقى والغناء المصري، ربما تكون حارة "خوش قدم" أو "حوش آدم"، كما يحلو لنا أن نسميها، إحدى أهم العلامات في تاريخ الموسيقى في مصر: موسيقى البسطاء والشرائح المهمشة التي تمثل الغالبية العظمي من المصريين. في هذه الحارة عاش (مغنى الشعب المصري) إمام عيسى ما يقرب من ثلاثين عاما برفقة الفنان التشيكلي محمد علي والشاعر أحمد فؤاد نجم، ومن حولهم تجمع مثقفو مصر والعالم العربي والمهتمون بتجربة إمام عيسى الموسيقية من الأجانب. وقبل هؤلاء وأولئك كان سكان الحارة والحارات والأحياء المجاورة يعرفون إمام ويحيطون به ويرددون ألحانه وأغانيه.
في بداية انطلاقة إمام عيسى الموسيقية سيطرت عليه النغمة الدينية-الصوفية التي تواكبت مع الكلمات العاطفية وكان ذلك طبيعياً بحكم ارتباط إمام عيسى في بداياته بالموالد وحلقات الذكر وقراءة القرآن في المساجد. ولكنه كفنان حقيقي كان يمتلك حسا دراميا الأمر الذي تضافر بشكل سريع مع وعيه بهموم البسطاء ومن هنا كانت البداية الحقيقية لفنان بسيط تمكن بوعي وحرفية أن يضع أقدامه على طريق خالد الذكر سيد درويش. ولعلنا نلمح هذا الحس في أغاني مثل (قيدوا شمعة) و(المولد) و(جيفارا مات)� الخ
لقد لعب المكان دورا هاما في فن إمام عيسى لأن النشأة في (أبو النمرس) والحياة في شوارع وحواري القاهرة القديمة ثم الاستقرار في غرفة متواضعة بحارة (حوش آدم) كل ذلك إلى جوار وعيه بالهموم اليومية البسيطة التي تشكل القضايا الكبرى للبسطاء والمهمشين جعل من إمام عيسى الحفيد الشرعي لسيد درويش. من هنا ارتكز الشيخ إمام عيسى إلى القاعدة الموسيقية الدرويشية لينطلق بالموسيقى العربية إلى أفق آخر يعبر بحق عن ثقافة أخرى مغايرة: ثقافة البسطاء من أغلبية المصريين، تلك الثقافة المهمشة التي تثير سخرية الأقلية واحتقارها.
دور يا كلام على كيفك دور
خلي بلدنا تعوم ف النور
إرمي الكلمة في بطن الضلمة
تحبل سلمي وتولد نور��
�����عم إمام عنده كلام
ومسوَّح ف بلاد الناس
من شوق نوله يغزل قوله
ويغني مرفوع الراس ..
( 1 )
وُلِدَ إمام عيسى في 2 يوليو عام 1918 ببلدة "أبو النمرس" بمحافظة الجيزة، قبل رحيل خالد الذكر سيد درويش بخمس سنوات وشهرين وثلاثة عشر يوما، أي في 15 سبتمبر عام 1923. وعليه فهناك عدة تساؤلات تطرح نفسها من قبيل التأمل وليس التداعي: هل تقاطُع البدايات والنهايات يمكنه أن يوحى بشيء ما؟ هل انتظر سيد درويش شيئا ما، أو أحدا ما ليسلمه العهد والأمانة؟ أم أن الذين" تخلصوا" من سيد درويش لم يدركوا مغزى التعاويذ المصرية؟ لم يدركوا معنى الكلمة والولادة في الأساطير المصرية القديمة، لم يدركوا دلالة "الكلمة" وأبعادها في الكتب الدينية المختلفة، لم يفهموا مغزاها في الممارسات الطقوسية والأسطورية ليس فقط لدى المصريين، وإنما لدى كل شعوب الأرض قديما وحديثا؟!لقد أدرك سيد درويش بعبقرية فذة فكرة أن التعبير الموسيقى لا يكون صادقا وكاملا إلا إذا انطوى التأليف الموسيقى على أبعاد ثلاثة بصرف النظر عما إذا كان آليا أو غنائيا:
1-البعد النغمي-المسار اللحني.
2-البعد الإيقاعي-الوحدة الزمنية وقيمتها من حيث النبر.
3-بعد الانسجام والتوافق النغمي المسموع.
من البعدين الأول والثاني تتكون الألحان الأفقية المُسطحة. أما البعد الثالث فهو الذي يُعَمِّق ويجسد تلك الألحان الأفقية، ويحدث ذلك غالبا في شكل مركبات/تآلفات رأسية، وهو ما يسمـي بالهارموني. ومن الممكن أن يأتي البعد الثالث-المُعَمَّق والمجسد للألحان الأفقية-على شكل ألحان أفقية أخرى تتباين لحنيا، وتتردد وترتبط هارمونيا مع الألحان الأفقية الأصلية، وهو ما يسمى بالكوانترابنط. وعموما لن نتوغل في دور البعد الثالث سواء كان هارمونيا أو كوانترابنطيا في تعدد الأصوات والبوليفونية. وما يهمنا هنا أن سيد درويش من خلال تجربته تمكن من التوصل إلى ذلك، ومن ثم لعب دوره الرائد في تأسيس نقلة نوعية في الموسيقى العربية. أما الشيخ إمام عيسي فقد ارتكز بطبيعة الحال إلى القاعدة الدرويشية لينطلق إلى أفق أرحب (لن يحسم هذا الرأي إلا بجمع تراث الشيخ إمام عيسى وتحليله تحليلا علميا) حيث تمكن من صياغة معادلة تكاملية بين الكلمة واللحن والأداء. وهذه معادلة تكاملية كلاسيكية بالمعنى الرياضي، أي التكامل على ثلاثة أبعاد: الكلمة واللحن والأداء. وقد توصل إمام عيسى إلى صياغة هذه المعادلة الصعبة بعد انقطاع وتراجع وهبوط منذ وفاة سيد درويش وحتى قيام ثورة يوليو 1952، أو بالأحرى عندما تم تجميع تراث سيد درويش بعد قيام الثورة بخمسة عشر عاما-أي بعد النكسة. وإمعانا من إمام عيسى في تأصيل معادلته وترسيخها، فقد قام بإضافة بعد رابع-الزمن. وبذلك تكون المعادلة التكاملية الرياضية قد اكتملت لتصبح معادلة تكاملية حديثة بمتغيرات أربعة، ولتتشكل أمامنا لوحة فنية موسيقية كاملة بعناصر أربعة: كلمة-لحن-أداء-زمن. ولكن أي زمن؟ هل هو زمن المغنى؟ أم الزمن الممتد منذ البدايات الأولى؟ أم تلك الفترة الزمنية التي تقاطع فيها هذان الزمنان مع زمن الأحداث التي عاشها المغني/المؤلف نفسه؟ وربما هو ذلك الزمن الذي يفعل فعله في المقدس ليجعله أرضيا وعاديا وحميميا، ولكن مع ذلك سرمديا؟ هذه التساؤلات ليست بالطبع مجرد تداعيات، ولكنها في صلب العملية الإبداعية الموسيقية وعلى نحو علمي، إذ أن تغلغل الأبعاد اللحنية-وخاصة البعد الثالث-في الماضي والحاضر والمستقبل هو في حد ذاته تعبير زمني علمي بالمفهوم الفيزيائي الحديث جدا (وذلك بداية من مفاهيم الميكانيكا الكمية في الثلاثينات ثم النظرية النسبية وانتهاء بما يسمى بالزمن الافتراضي واختراق حاجز الزمن المستند إلى اكتشاف جسيمات أوليه في غاية الأهمية غير الفوتون) يمكنه أن ينتج شيئا يسمى بأصالة اللحن وصدق التعبير، وهو ما يمكن الارتكاز عليه لإنتاج دراما موسيقية، بل وتوزيع تلك الصياغات في أشكال موسيقية حديثة، أي ببساطة تشكيل مدرسة موسيقية خاصة بنا تستند إلى المنجز العلمي/الفني الحديث. وإذا كان سيد درويش قد أدرك بعبقرية فذة العلاقة بين اللحن والمقطع الشعري موسيقيا، ومن ثم برزت جهوده في تأسيس ما يسمى بالقصيدة أو صورها على المقامات العربية، فالشيخ إمام عيسى قد قام على المستوى التقني بتطوير ذلك إذ أن تجربته قد اشتملت على بُعد فني/تقني أصبح بفعل الزمن والجهد متقدما نسبيا وذلك على مستوى الصياغة الشعرية والجملة الموسيقية بكل ما تحمله من شحنات هائلة بداية من تلحين الكلمات والجمل الموسيقية البسيطة وحتى التراكيب المعقدة للجمل الموسيقية. هذا بالطبع إلى جانب أن الشيخ إمام لم يلجأ إطلاقا في أدائه إلى حلاوة الصوت أو التداعي والحزن، بل اعتمد على خشونة الصوت وقوَّته العذبة الصافية. وإذا كان هناك ندبا وتعديدا-من حيث المقامات انعكس بدوره على الأداء-في أعمال الشيخ إمام عيسي، فهي لم تتأت من الرغبة في اللعب على وجدان المستمع/المتلقي ومشاعره، بل هي متأتية بالدرجة الأولى من وجودها في التراث على مستوى الكلمة والمقام الموسيقى وطبيعة كل من المبدع والمتلقي، ومن ثم في الوجدان الجماعي الأمر الذي أدى بالشيخ إمام إلى عدم الاستغناء عنها، وإنما دفعه إلى التعامل معها وإدارتها بذكاء يعلن عن موهبة خلاقة وقدرة عظيمة على التعامل مع المقامات العربية، وهو ما أطلقنا عليه منذ قليــل "المستوى التقني". وهو نفس الشيء الذي كان يجعله يخرج من مقام "صبا"-على سبيل المثال لا الحصر-ومن الحزن والغم والعذابات الذاتية إلى القوة والرفض، وكثيرا ما قام بالتنويع (لحنا وأداء) على المقام الواحد متنقلا في جملة شعرية/موسيقية واحدة من الحزن إلى القوة والثورة إلى السخرية والتهكم، بل وأحيانا إلى التنكيت، وكأنه ببساطة يغنى أفكار المتلقي ويصيغها من جديد بلغة مشتركة تُعَبِّر وتشكل في آن واحد عن أحلامه وطموحاته، ومن أجل ذلك تحرك على عدة محاور هامة تتلخص في:
1-تعامل مع الموسيقى من موقع المؤلف الموسيقي ولم يصنع جملا موسيقية لقصائد شعرية بالمعنى السائد والمبتذل، والمقصود هنا أنه إلى جانب كونه مؤلفا موسيقيا، قام بطبيعة الحال بتأليف موسيقى لقصائد شعرية ولكنه توخى فيها الالتزام بمشروعه الموسيقى والحفاظ على العناصر الأساسية للصورة الشعرية/الموسيقية.
2-صاغ عَالَما صوتيا تَشَكَّلَ من بعدين: موسيقى وغنائي انبثقت منهما وحدة فنية متكاملة لها خصوصيتها التي يمكن أن تصبح قاعدة ارتكاز لتجارب أرقى تقنيا.

( 2 )
لا شك أن ثورة يوليو 1952 قد جاءت بمبادئ وطنية انعكست في مجملها، وفي حدود معينة، على جميع جوانب الحياة والأنشطة آنذاك. وبالتالي على الفن بشكل عام الأمر الذي جعل الغالبية العظمى تلتف حولها، ويقف كل بأداته إلى جوارها. من هنا طرحت الثورة خطابا اجتماعيا/سياسيا/وطنيا مغايرا اقترن في ذات الوقت بمشروع قومي/وطني، ورافق كل ذلك خطاب شعري/موسيقي جديد. بذلك تكاثفت الجهود-نظريا-على العودة إلى الأمام، أي على طريق البحث والتنقيب وإحياء التراث بعد اختفاء المبادرة الوطنية منذ وفاة سيد درويش. ولكن النية/المبادرة الوطنية النظرية وحدها لا تكفى، إذ تم استخدام تراث سيد درويش بشكل أحادى يخدم مجموعة من الأهداف الأولية التي يجب أن تتطور في المستقبل ( مثل الأهداف والمبادئ السياسية التي طرحتها الثورة ولم تتحقق بشكل كامل نظرا لأسبـاب أخرى). وقد ورد على لسان وزير الثقافة الأسبق الدكتور ثروت عكاشة: "� كان سيد درويش نتاجا عبقريا ليقظة الشعب العربي في مصر عام 1919"، ومن الواضح بطبيعة الحال أن العبارة تنطوي على بُعد سياسي كتوجه أو كخطاب للسلطة آنذاك حيث يتم الربط بين سيد درويش وثورة 1919 بشكل قسري دون مراعاة الجوانب الأخرى التي تشتمل عليها تلك العلاقة التي هي أكبر من مجرد علاقة بين فنان الشعب وثورة لا أحد ينكر أهميتها. وبالتالي عندما يتم اجتزاء العلاقات، ومحاولات لربط القسري الظرفي المشروط بين أحداث من أجل استثمارها في قضايا ربما تكون مرحلية دون الالتفات إلى توسيع أبعاد تلك العلاقات وتعميقها، يمكنه أن يؤدى إن عاجلا أو آجلا إلى كارثة. فعندما اختفت المبادرة الوطنية لمدة 29 عاما-منذ وفاة خالد الذكر وقيام الثورة-حدثت فترة انقطاع إلا من محاولات فردية متواضعة للغاية الأمر الذي أدى إلى ضياع جزء كبير من تراث سيد درويش، ونؤكد هنا أن الموضوع هو ضياع وفقدان لأجزاء كثيرة من تراث خالد الذكر، وليس انهيار مشروع سيد درويش كما يحلو للبعض أن يسميه. وقد أدى ذلك إلى استخدام ما تبقى من هذا التراث في مآرب أخرى شبيهة بالمؤامرة، ومن ثم تراجعت الموسيقى إلى ما قبل الدور الفعَّال الذي بدأه سيد درويش. وقد حاولت الثورة أن تتعامل مع هذا التراث في إطار خطابها القومي/الوطني المطروح، إلا أن التعامل جاء نظريا محضا بارتكازه ليس فقط على التجربة الأصلية وما نتج عنها من محاولات فردية، وإنما باستخدام الانحرافات والتحريفات التي بدت مستندة إلى تراث سيد درويش، وبالتالي ظهرت الأغاني التراثية "السياحية" والعاطفية والثورية، والأغاني التي تبجل الفرد وتؤلهه والتي كانت في مجملها مرتبطة بألحان بسيطة سطحية. خلاصة القول أن الإنتلجنسيا الفنية (وهى التي يُطلَق عليها في الأدبيات الإنتلجنسيا المأجورة رغم عدم اتفاقنا كليا مع هذا التعميم) قد انحازت بكل قواها إلى الثورة الجديدة وخطابها الفني "الثورى"، وبالتالي تبنت وجهات نظر النظـام الحاكم، وتحولت الأغاني الشعبية والجماعية بألحانها وبطابعها الدرويشي إلي أغاني وطنية يغلب عليها الطابع الدعائي وتمجيد الفرد. وجاءت نكسة 1967 لتكشف العورات، وتشكل ضربة قاضية لكل ما مضى من توجهات سياسية واجتماعية وفنية. وأفاق الجميع على خواء الشعارات الوطنية، واكتشفوا أن الموضوع كان مجرد حالة ثورية حماسية أدت في مجملها إلى نكسة مروعة ليس فقط للنظام الحاكم والجيش العسكري، وإنما إلى هزيمة الحلم الكبير، والشعار الاجتماعي/الوطني، والنغمة الموسيقية التي ارتبطت أيما ارتباط بالأغاني المكتوبة خصيصا للنظام ورموزه، أو لِما كان يود تكريسه من مشاعر وأحاسيس وأفكار. من هنا أطلق البعض على ظهور الشيخ إمام عيسى أوصافا في غاية الغرابة: ظاهرة إمام/نجم، ظاهرة الأغاني السياسية، الأغاني الثورية، بل وتم تصنيفها على أنها ظاهرة مرتبطـة بالنكسة، أو وليدة الهزيمة والانهيار متناسين أن الشيخ إمام عيسى جاء إلى القاهرة وبدأ مشواره الفني عام 1962، وتتلمذ على الشيخ درويش الحريري، ودرس أصول الموشح الأندلسي، والتقى بالشيخ زكريا أحمد ومحمود صبح والشيخ على محمود، وارتكز قبل كل شيء على تراث سيد درويش، وبدأ أيضا خطابه الموسيقى المغاير لخطاب السلطة في الستينيات قبل نكسة 1967. أي إن إمام عيسى لم يولد (كظاهرة مع نجم) من رحم الهزيمة، وإنما ولد قبلها مثلما ولد سيد درويش فنيا قبل ثورة 1919. أما البروز أو الانتشار فهذا موضوع آخر له شروطه وظروفه ومهامه. وقد برزت أغاني إمام عيسى، ربما، من جراء التناقض الحاد الذي تولد بسبب الهزيمة حيث حاول النظام آنذاك أن يمارس لعبة تغييب الوعي مستخدما نفس الآليات التي استخدمها في بداية الثورة من أجل إعادة الوعي، فهجمت الأغاني العاطفية المبتذلة، والأغاني الشعبية "السياحية" الساذجة والتافهة، وبسبب هذا التناقض تحديدا انتشرت أغاني إمام عيسى من جراء الرغبة المضادة لرغبة السلطة، وبخطاب مضاد أيضا لخطابها وخصوصا بعد الهزيمة. وللأمانة فقد كانت تلك التجربة، وذاك الخطاب موجودين في مسيرة إمام عيسى قبل الهزيمة، وذلك من منطلق الإرادة المضادة لانحراف خطاب النظام الحاكم الذي بدأت تناقضاته الداخلية تقربه مـن حتفه. أما الأمر الثاني والهام في ترسيخ أكذوبة إمام/نجم، فهو انهزام وخيبة أمل المثقفين بشكل عام، والمثقفين اليساريين على وجه الخصوص، وبحثهم عن وسائل للتماسك وراحة الضمير. من هنا ظهر وصف أو مسمى إمام/نجم بحسن نية ونتيجة لانكسار وتردى حقيقيين لدى المثقفين متناسين أن إمام عيسى قد تعامل مع الشعراء المصريين والعرب مثل فؤاد قاعود وفدوى طوقان وزكى عمر وسميح القاسم وزين العابدين فؤاد وتوفيق زياد ونجيب شهاب الدين وأحمد نجم وفؤاد حداد وعفاف العقاد وعبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب، وشبان تونسيين، وتعامل مع التراث العربي، والشعبي، والعربي في الأندلس.
إن تجربة إمام/نجم واحدة ضمن تجارب عديدة، ولكن الاندفاع الشرس للمثقفين اليساريين من جراء انهيار الحلم الكبير، وبهدف إيذاء الذات لم يعطهم الفرصة لالتقاط الأنفاس ومراجعة المصطلحات. كانوا فى أَمَسِ الحاجة إلى بديل سريع لاستعادة التوازن على الأقل، وبالتالي شكلوا عبئا ثقيلا وخطيرا على التجربة الفنية للشيخ إمام عيسى. وهذا بالطبع أحد الأسباب الهامة التي ساهمت في عزل التجربة عن التجربة الفنية في عمومها آنذاك وبعد ذلك أيضا. هذا إلى جانب حصار السلطة السياسية وإغلاق أجهزة إعلامها أمام التجربة، بل ومصادرة حتى الأشرطة البسيطة التي كانت تُسَجَّل في محاولات فردية للحفاظ على تراث إمام عيسى. لقد كانت السلطة سواء في الستينات أو السبعينات، وحتى في الثمانينات على استعداد لتبني التجربة وفتح الأبواب أمامها، ولكن بشروطها هي الأمر الذي كان يمكنه أن يفرغها من أهم عناصرها التي تُشَكِّل جوهرها الأصلي. وفي هذا الإطار لا يمكننا تجاهل أو إغماض العيون عن تسلط الحركة اليسارية المصرية على التجربة ومحاولة الاستيلاء عليها أو الانتساب إليها. ومع ذلك فهذا لم يكن خطأ قاتلا بحكم ظروف كثيرة (ففي كل الأحوال يعود الفضل في اكتشاف إمام وتقديمه إلى جماهير الشعب البسيطة والمثقفين على حد سواء إلى الحركة اليسارية المصرية والمثقفين اليساريين تحديدا، ولولا ذلك لظل إمام عيسى مقرئا بسيطا للقرآن الكريم في المساجد والموالد والأعياد)، ولكن كارثة الصراع الداخلي للحركة اليسارية والوطنية بشكل عام هو الذي لعب الدور الأساسي في ذلك الحصار الذي يشبه الخنق، مما زاد من بُعد التجربة عن وسائل الإعلام حيث تم استخدامها بشكل ضيق ومحدود في نشاطات متفرقة لكل فصيل على حدة الأمر الذي كان يدفع إمام نفسه إلى رفض التعامل مع أجهزة الإعلام. هذا إلى جانب أن التجربة قد تم تصنيفها في المرحلة الناصرية، وبالتالي دخلت إلى المرحلة الساداتية جاهزة للرفض ومصبوغة بعلو الصوت والسب والضجيج والسفاهة (هذا طبعا من وجهة نظر مثقفي السلطة الجديدة، والإنتلجنسيا الصاعدة، ناهيك عن الخطأ الفادح لمثقفي الستينيات في إطلاقهم الأوصاف والمصطلحات التي ذكرناها آنفا). واستمرت السلطة في السبعينيات في ترصد التجربة وإجهاضها أولا بأول الأمر الذي أدى إلى التعامل مع فن إمام عيسى بدرجة لا تقل في خطورتها وتحريمها عن التعامل مع الممنوعات، في نفس الوقت الذي ظهرت فيه وانتشرت أغاني وأشعار وألحان ما أنزل الله بها من سلطان! والأدهي والأمر أن أجهزة الإعلام قد روَّجت لها بمساعدة الإنتلجنسيا المأجورة في ظل الانحطاط العام والكلي الذي تزامن مع حملة ضخمة لترويج المخدرات وبشكل لم يكن له مثيل في أية فترة من تاريخ مصر (وفى ظل حكومة وطنية!)
هنا يقفز سؤال آخر متعدد الأوجه والنوايا، وإذا كان يبدو أنه مرتبط بما يسمى ظاهرة إمام/نجم، فهو مرتبط أيضا بفكرة سيئة النية، ألا وهى ربط إمام بنجم وتكريس، بل وتأصيل مفهوم أنها مجرد علاقة عابرة ومحدودة بحكم الظرف السياسي وظروف أخرى منها السكن وإحالة كل ذلك إلى تثبيت أن تجربة الشيخ إمام عيسى قد أُجهِضَت وذهبت إلى حال سبيلها مثلما قيل أن مشروع سيد درويش قد انهار، على الرغم من أن الواقع يقول عكس ذلك بالنسبة للتجربتين ولتجارب أخرى ربما يتسع الوقت بعد ذلك لمعالجتها. إذن.. هل كان ظهور الشيخ إمام عيسى في هذه التجربة ضروريا وهاما؟ وإذا لم يظهر إمام عيسى في تلك التجربة، فهل كان من الممكن أن يظهر أي إمام آخر-أقصد أي شخص آخر؟ بالطبع نرى أن السؤال الثاني هو إجابة على السؤال الأول. نعم.. كان من الضروري واللازم أن يظهر إمام. وإن لم يظهر، فقد كان من الضروري أن يظهر أي شخص آخر. ومن ثم يعود السؤال ليبرز على نحو مغاير: إذن لماذا ظهر إمام عيسى تحديدا؟ وهنا نجيب ببساطة: مثلما ظهر سيد درويش. وإذا نحينا جانبا تلك الأوصاف العاطفية الجميلة مثل وصف "بطل" سنجد أن كلا من سيد درويش وإمام عيسى قد ظهر في زمنه وفي ظروفه، بمعنى أن أيا منهما لم يأت مبكرا أو متأخرا. وبالتالي كان ظهور سيد درويش في ظل شروط محددة قد أملى عليه مهاما محددة في إطار اختياراته، ومن ثم تجاورت لديه الأغاني الوطنية والشعارية، والطقاطيق الخفيفة الساخرة، وأحيانا الجنسية، وتجلت قدرته على مزج الألحان النابعة من التراث بالألحان الساخرة والمبكية، ومع ذلك فقد أدلى بدلوه ونفَّذَ نقلته النوعية العظيمة في الموسيقى العربية وتمكن من حل المعادلة الصعبة التي تجمع بين الهم الاجتماعي/الوطني وبين الهم الفني/الحضاري وذلك بلجوئه في نهاية الأمر إلى الدرامـا الموسيقية، مع الأخذ في الاعتبار أن سيد درويش عندما كان يتحرك بين مصر والشام، وبين الإسكندرية والقاهرة، إنما كان يتحرك في أرض واحدة وبلد واحد تحت الوصاية العثمانية والاحتلال الأجنبي سواء كان بريطانيا أو فرنسيا. هذا إلى جانب أن قضية التخلص من الاستعمار وطرد المحتلين كانت تمثل الهم الأول والأساسي آنذاك، وكذلك الوعي العام العالي جدا بين كافة طبقات الشعب في ظل الثورة القائمة، كل ذلك أدى بشكل أو بآخر إلى ولادة مشروع وطني حقيقي وإن لم يكن رسميا في دعم إبداعات سيد درويش والترويج لها كنتاج وطني ضخم وسلاح هام وفعَّال.
أما إمام عيسى فقد جاء في ظل ظروف أكثر تعقيدا أملت عليه مهاما متضاربة ومتناقضة: فهو محاصر من فصائل المثقفين السياسيين (التي يدين لها بأشياء كثيرة وبالتالي أعلنت عليه الوصاية وأصبحت عائقا بعد أن كان لها فضل الاكتشاف. ولكن والحق يقال إذا تأملنا هذه القضية في إطار ظروفها فسوف نلتمس الكثير من الأعذار لفصائل المثقفين لأنها كانت هي الأخرى محاصرة)، ومحاصر من النظام مثل كل المثقفين الوطنيين، ومُستثنى من أجهزة الإعلام، ومُجابه بحملة شعواء من إنتاج فني غث ورديء تزامن مع انحطاط في الوعي العام، وبالرغم من كل ذلك لم تقتصر أعماله على الزعيق والشتائم وكشف الفضائح وتعرية النظام السياسي بشكل مباشر، بل تجاوز كل ذلك مع إمكانياته العالية على التعامل مع التراث الشعبي والموشحات الأندلسية والتراث العربي في محاولة جادة للإفلات من عملية الاستقطاب سواء من ناحية الأنظمة السياسية المتعاقبة، أو من فصائل الأحزاب السياسية المتناحرة التي حاولت استخدامه كبوق في مواجهة بعضها البعض وفى مواجهة الأنظمة أيضا. وفي ظل هذه الظروف الصعبة تمكن من القيام بعمل بعض الأعمال للسينما والمسرح، وأعتقد أن ما يُسلَب حاليا من تراثه خير دليل على توجهه إلى الدراما الموسيقية (مسلسل "المال والبنون"، وفيلم "الغريب"، وفيلم "الطريق إلى إيلات"، ناهيك عن الأعمال التي ورد عليها اسمه كمؤلف موسيقى). إن إمام عيسى لم يتوقف عند الفضح الاجتماعي والسياسي في إطاره المحلي، وإنما قام بوضع معادلته الهامة بين الهم الاجتماعي/الوطني وبين الهم الفني/الحضاري في إطار رؤية عامة وشاملة، أي رؤية ليست محلية، وإنما رؤية أممية تنظر بشمول وعمومية انطلاقا من خصوصية موسيقية وتراثية.

جوجول والمأمون: معطف من أدب وعرش من علم


خصصت روسيا هذا العام للاحتفال بمرور‮ ‬مائتي عام علي ميلاد‮ ‬الكاتب الروسي نيقولاي جوجول صاحب‮ "‬الأنف‮" ‬و"المفتش العام‮" ‬و"الأنفس الميتة‮". ‬الاحتفال مخطط له منذ خمسة أعوام،‮ ‬حيث أصدر الرئيس الروسي آنذاك‮ (‬رئيس الوزراء الحالي‮) ‬فلاديمير بوتين مرسوماً‮ ‬جمهورياً‮ ‬تلتزم به مؤسسات الدولة الروسية كافة،‮ ‬للمشاركة في الاحتفال‮.‬الكاتب والمترجم أشرف الصباغ‮ ‬يقدم في هذا البستان تقديماً‮ ‬لصاحب‮ "‬المعطف‮" ‬الذي خرج منه كل الأدب الروسي مع ترجمة لمقال نادر له عن الخليفة العباسي المأمون الذي جعل من بلاطه مكاناً‮ ‬للعلم وقاد حركة تنوير‮ ‬غير مسبوقة في تاريخ الدولة العربية.
أكبر من مجرد‮ ‬ كاتب فكاهي
أشرف الصباغ
يحلو للبعض،‮ ‬وفي روسيا أيضا،‮ ‬الحديث‮ ‬عن قدرة جوجول العبقرية بقولهم‮: "‬لقد استطاع نيقولاي جوجول إضحاك القراء بشكل لا يقل عن موليير وفيلدنج‮. ‬فالعديد من شخصيات أعماله مشوهون وغامضون مثل أبطال هوفمان‮". ‬ولكن بالرغم من أن بعض ميزات جوجول،‮ ‬ككاتب عبقري،‮ ‬يمكن أن تقارن بمواهب المبدعين الآخرين،‮ ‬إلا أنه يصنف بين الكتاب الأكثر استثنائية‮. ‬اعتبر البعض جوجول مؤلف‮ "‬كتب مضحكة جدا‮"‬،‮ ‬و"فكاهي لا نظير له‮"‬،‮ ‬غير أن كتاباته المضحكة تشابكت مع عالم‮ ‬غير مرئي من التراجيديا والدموع والكوارث النفسية البشرية‮. ‬وخلال قراءة كوميدياه الأفضل من وجهة نظر الكثيرين،‮ "‬المفتش العام‮"‬،‮ ‬من الممكن الإحساس علي الفور بمرارة الكاتب في وصف‮ "‬الجانب المظلم‮" ‬من حياة تلك المجتمعات المتخلفة علي الرغم من إن الموضوع كتب عن روسيا‮. ‬وسنتحدث لاحقا عن موضوع‮ "‬الجانب المظلم‮"‬،‮ ‬لأنه يثير الكثير من المشاكل في روسيا عموما،‮ ‬وفي أوساط الإنتلجنسيا الروسية وبعض الدوائر التي تفضل دفن رأسها في الوحل متصورة أنها تختفي،‮ ‬وتخفي ما فيها،‮ ‬عن العيون الأخري‮.‬نيقولاي جوجول ولد في‮ ‬1‮ ‬أبريل عام‮ ‬1809‮ ‬في منطقة‮ "‬فيليكي سوروتشينتسا‮" ‬في حاكمية‮ "‬بولتافا‮" ‬التابعة لأوكرانيا آنذاك،‮ ‬وهو ينحدر من أصول أوكرانية-بولونية نبيلة هي‮ "‬الجوجولية اليانوفسكية‮". ‬توفي والد جوجول فاسيلي يانوفسكي عندما كان ابنه في الخامسة عشر‮. ‬وأصبحت والدته ماريا أرملة وهي في سن الثلاثين مع أربعة الأطفال‮. ‬قامت ماريا بإرسال ابنها البكر نيقولاي للدراسة في مدرسة‮ "‬بولتافا‮"‬،‮ ‬وبعد ذلك في المدرسة الداخلية نيجينسك‮ (‬المدرستان في أوكرانيا‮). ‬وبمجرد انتهاء‮ "‬كوليا‮" ‬من الدراسة وحصوله علي الشهادة انطلق يشق‮ "‬مسيرته‮" ‬المهنية في العاصمة الروسية سانت بطرسبورج‮. ‬كان الفتي كوليا يحلم بنشاطات اجتماعية واسعة النطاق ليس إطلاقا في المجال الأدبي وإنما في خدمة الدولة‮. ‬ولكن الخيبة‮ "‬الثقيلة‮" ‬كانت تنتظره بفارغ‮ ‬الصبر في سانت بطرسبورج،‮ ‬حيث المصروفات التي رصدتها له الأم كانت في‮ ‬غاية التواضع في مدينة كبيرة كهذه‮. ‬وبالتالي لم تتحقق آماله وأحلامه الباهرة‮. ‬آنذاك يقوم كوليا جوجول بأول تجاربه الأدبية،‮ ‬حيث خرجت إلي النور قصيدته‮ "‬إيطاليا‮" ‬مع بداية عام‮ ‬1829‮ ‬تحت اسم مستعار هو‮ "‬ف‮. ‬ألوف‮"‬،‮ ‬وكانت تدور حول ربيع ذلك العام‮. ‬ولكنه قام بإتلافها علي الفور،‮ ‬إتلاف أول إبداعاته حينما تعرض لانتقادات قاسية من نقاد سانت بطرسبورج الذين لم يكونوا يرحموا أحدا‮. ‬وفي رواية أخري يقال أنه جاء إلي سانت بطرسبورج ببعض قصائده ومن ضمنها قصيدة بعنوان‮ "‬هانز كويتشيلجارتين‮" ‬حول طالب ألماني رومانسي‮. ‬نشرت عام‮ ‬1829،‮ ‬ولكنها كانت قصيدة تقليدية جدا فرفضها النقاد بالكامل‮. ‬ولم يتحمل جوجول هذه الضربة ففقد اهتمامه بكل شيء حتي عمله وترك روسيا متوجها إلي أوروبا‮. ‬وبعد ذلك ظهرت سانت بطرسبورج،‮ ‬التي قابلته وتعاملت معه بقسوة،‮ ‬في كتاباته كـ‮ "‬معقل‮" ‬للشر وانحطاط النظام البيروقراطي‮.‬في أبريل عام‮ ‬1830‮ ‬وجد جوجول عملا ككاتب في دائرة حكومية وبقي فيه ما يقرب من العام‮. ‬إلا أنه في نهاية المطاف ترك العمل في الخدمة الحكومية‮. ‬تركه بخيبة أمل ولكن بمجموعة هائلة من الأفكار والانطباعات التي ظهرت في المستقبل‮. ‬وفي عامي‮ ‬1830‮-‬1831‮ ‬تعرف الكاتب علي الشاعر والكاتب فاسيلي جوكوفسكي،‮ ‬وعلي شاعر روسيا الأعظم ألكسندر بوشكين الذي ترك تأثيرا عظيما عليه‮. ‬وفي عامي‮ ‬1831‮-‬1832‮ ‬نشر جوجول‮ "‬أمسيات علي مزرعة قرب ديكانكا‮"‬،‮ ‬وهي قصة قصيرة مبنية علي موضوعات أوكرانية‮. ‬استند جزء منها إلي موضوعات شعبية سلافية-أوكرانية حول اللقاءات المرعبة بين الناس والعالم الآخر،‮ ‬وتناول البعض الآخر منها صور أعياد القرية المرحة‮. ‬وأعرب الشاعر ألكسندر بوشكين عن انطباعاته حول‮ "‬ديكانكا‮" ‬بقوله‮ "‬كان ذلك مدهشا‮. ‬ذلك الذي أدعوه بالمرح الحقيقي‮ ‬غير العاطفي أو الحماسي،‮ ‬وإنما البريء الصافي‮! ... ‬والشاعري جدا‮!" ‬وهنا تحديدا بدأت خطوات الكاتب علي الطريق الأكبر للأدب العالمي،‮ ‬حيث حملت هذه المادة نجاحا عظيما له‮.
‬ملحمة النصاب
في خريف عام‮ ‬1835‮ ‬بدأ العمل علي رواية‮ "‬الأنفس الميتة‮". ‬تلك الرواية التي حولته إلي كاتب مشهور عالميا‮. "‬الأرواح الميتة‮" (‬التي يقال أن بوشكين هو الذي اقترح فكرتها‮) ‬هي ملحمة جوجول التي تدور حول التاجر‮ "‬النصَّاب‮" ‬بافل تشيتشيكوف،‮ ‬والتي أصبحت موضوعا شعريا حيويا عندما بدأت روسيا البناء الرأسمالي‮. ‬فقد قام النصاب بشراء أسماء موتي من ملاك الأراضي بهدف جمع ثروة طائلة ببيع أسماء‮ "‬هذه الأرواح الميتة‮" ‬كما لو كانوا أحياء‮. ‬وعموما فرجال الأعمال الذين ظهروا في ما بعد في روسيا السوفيتية،‮ ‬وروسيا الحالية ما بعد السوفيتية،‮ ‬كان ولا يزال لديهم موهبة تشبه موهبة تشيتشيكوف لجني المال من لا شيء من خلال بيع شقق‮ ‬غير موجودة أو أسهم في مشاريع خيالية‮. ‬ولعل أعظم وأخلد ما في هذه المعزوفة التراجيدية المرعبة،‮ ‬هو أن جوجول استطاع باستثنائية إبداعية متفردة تجسيد روح التاجر الروسي ليس فقط في زمنه،‮ ‬وإنما في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين‮. ‬بل والأكثر إثارة للدهشة هو أن نماذج شخصيات‮ (‬الأرواح الميتة‮) ‬يمكن أن يلتقيها أي إنسان عابر في شوارع موسكو وسانت بطرسبورج في هذه الأيام‮. ‬في أبريل عام‮ ‬1848،‮ ‬وبعد رحلة إلي فلسطين لرؤية الضريح المقدس،‮ ‬عاد جوجول أخيرا إلي موسكو واستعد لكتابة المجلد الثاني من جديد‮. ‬وفي أواخر يناير عام‮ ‬1852‮ ‬أصيب جوجول بنوبة أخري اقتربت به بشكل كبير من هاجس الموت الوشيك‮. ‬وفي ليلة‮ ‬12‮ ‬فبراير ألقي بمخطوطة المجلد الثاني في النار‮. ‬لقد خطط جوجول بعيدا لتشيتشيكوف بل وكتب حتي الجزء الثاني من هذه الملحمة،‮ ‬لكنه أحرقه بعد‮ ‬10‮ ‬سنوات من إصدار المجلد الأول‮. ‬وبسبب الجدل المتواصل حول أسباب هذا‮ "‬الإعدام‮" ‬للعمل فالدوافع المستشهد بها عموما تتضمن أزمة عقلية واستياء الكاتب من عمله الجديد‮. ‬أما نصه الدرامي‮ "‬المفتش العام‮" ‬فلم يفقد حيويته إلي يومنا هذا‮. ‬فطوال القرن التاسع عشر،‮ ‬والعشرين،‮ ‬تعرض مسؤولون سوفيت وروس لنفس الظروف كأسلافهم في العصور القيصرية،‮ ‬ونالوا ما يستحقون بداية من تراكيب جوجول التي دخلت إلي صلب الميثولوجيا الشعبية الروسية،‮ ‬وانتهاء بما تتكشف عنه قرائح الناس الذين تربوا علي هذا التراكيب‮. ‬ولن نجد مسرحا ليس فقط في الجمهوريات السوفيتية الـ‮ ‬15‮ ‬السابقة،‮ ‬وإنما أيضا في العالم كله لم يتناول‮ "‬المفتش العام‮" ‬في معالجات درامية مختلفة‮. ‬ناهيك عن تناولها كمسلسلات تلفزيونية أيضا‮. ‬لدرجة أن الصحافة كانت علي الدوام،‮ ‬ولا تزال تقارن الموظفين المقرفين بنصابي جوجول‮.‬من الطريف هنا أن نتذكر ملاحظة القيصر الروسي نيقولاي الأول عندما شاهد عرض الافتتاح لمسرحية‮ "‬المفتش العام‮" ‬عام‮ ‬1836‮ ‬حيث قال‮: "‬حصل كل شخص علي ما يستحق،‮ ‬وأنا أكثر من‮ ‬غيري‮" ‬الوجهاء لم يخفوا عدم رضاهم بينما الجمهور كان منتشيا‮. ‬الكوميديا التراجيدية جدا،‮ ‬والتي بنيت علي خداع الذات،‮ ‬تتعرض لمجموعة من المسؤولين الإقليميين‮ ‬غير المبدئيين،‮ ‬أو بالأحري الأفاقين،‮ ‬الذين ينتظرون برعب وصول المفتش العام الذي من المفترض أنه سيكشف العديد من الألاعيب والمخالفات التي يمارسونها‮. ‬ولكنهم يخطئون الاعتقاد عندما يستقبلون زائرا عاديا متصورين إنه المفتش العام‮. ‬وتستمر المفارقات الخطيرة إلي أن يصل المفتش العام‮) ‬الحقيقي في اللحظة‮ ‬غير المناسبة‮. ‬وإذا كانت لحظة‮ (‬المفتش العام‮ ‬غير المناسبة صنعت مفارقة كوميدية،‮ ‬فاللحظات‮ ‬غير المناسبة تاريخيا تصنع من مصائر الشعوب مآسي وتراجيديات‮. ‬وها بالذات ما يجعل‮ (‬المفتش العام‮) ‬عمل خالد بكل المعايير‮. ‬في‮ ‬4‮ ‬مارس‮ (‬21‮ ‬فبراير حسب التقويم القديم‮) ‬عام‮ ‬1852‮ ‬توفي جوجول في موسكو ودفن في دير دونسكوي،‮ ‬أحد أماكن موسكو التاريخية‮. ‬وبعد عام‮ ‬1917‮ ‬نقل قبر الكاتب إلي مقبرة نوفوديفيتشي حيث يرقد مجموعة من الأشخاص المشهورين في وسط موسكو‮.
‬الروح الروسية‮
‬لم تكن عبارة ديستويفسكي‮ (‬كلنا خرجنا من معطف جوجول‮) ‬مجرد مبالغة أو محاولة بلاغية قصد منها إجلال الرجل،‮ ‬وإنما كانت نابعة أساسا من قناعته بأن الأدب الروسي الحقيقي قد بدأ فعليا بجوجول‮. ‬أما المقصود بـ‮ "‬معطف جوجول فهو قصة المعطف التي اعتبرها ديستويفسكي مثالا نموذجيا للعمل الفني‮. ‬الروح الروسية ماتزال هائمة إلي الآن‮. ‬جسدها كل كاتب بطريقته،‮ ‬لكن هناك‮ ‬غصة لدي الروس،‮ ‬رغم كل ما يحملونه من احترام وتبجيل لديستوفيسكي،‮ ‬من تعامل هذا الكاتب‮ (‬ديستويفسكي‮) ‬مع الروح الروسية،‮ ‬إذ تمكن من إعمال مشرطه الحاد في أعمق أعماق الجوانب المظلمة فيها‮. ‬لم يغفر له الكثيرون‮ ‬_‮ ‬إلي الان‮ - ‬هذه الطريقة المرة التي سلط بها الضوء علي تلك الجوانب المظلمة‮. ‬أما جوجول فقد تعامل بطريقة أخري نسبيا مع تلك الروح ففضحها أيضا وكشف عن عوراتها‮. ‬أي أن الكاتبين وجهان لعملة واحدة‮. ‬وهناك أوجه شبه بارزة الملامح بينهما‮: ‬التدين،‮ ‬والمرض النفسي،‮ ‬واستعداء السلطة،‮ ‬الكشف-الفضح‮ (‬وإن اختلفت الأساليب‮). ‬واختلاف الأساليب هو الذي كاد يودي بديستويفسكي إلي الإعدام،‮ ‬بينما دفع جوجول إلي حالة من الجنون المرضي‮. ‬مشرط الكاتبجوجول،‮ ‬المغرق في روسيته،‮ ‬يذكرنا علي الفور باثنين من عظماء ما يسمي بـ‮ "‬الحضارة العربية الإسلامية‮": ‬أبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي‮. ‬وهو أكثر شبها بالثاني‮. ‬وإذا كانت الأدبيات تظهر أن بوشكين هام بالثقافة العربية،‮ ‬وقام ديستويفسكي هو الآخر بزيارات لشرقنا‮ "‬السعيد‮" ‬شعورا منه بأهمية هذا الشرق بكل ما يحوي من شرائح ثقافية-تاريخية-تراثية-دينية،‮ ‬واهتم أيضا ليف تولستوي بالثقافة العربية والدين الإسلامي،‮ ‬فقد تجاوز جوجول كل هؤلاء وخرج من‮ "‬معطفه‮" ‬الروسي إلي رحابة تحليل الذات العربية الحاكمة في واحدة من أهم المراحل التاريخية وأخصبها وأكثرها جدلا واختلافا‮. ‬وبما أن جوجول لم يكن مجرد كاتب مناسبات أو مجاملات،‮ ‬أو كاتب عابر،‮ ‬فقد أمسك بـ‮ "‬مشرط‮" ‬الجراح مُشَرِّحا واحدة من أهم شخصيات تلك الفترة جدلا‮. ‬وبصرف النظر عن الاختلاف أو الاتفاق مع ما طرحه جوجول منذ ما يقرب من قرن ونصف،‮ ‬وبغض النظر أيضا عن العديد من الآراء ووجهات النظر التي تكشف أن جوجول كان بعيد نسبيا عن بعض التفاصيل الهامة،‮ ‬إلا أنه في نهاية الأمر كان كاتبا روسيا مسيحيا متدينا،‮ ‬وفي ذات الوقت تمكن بعبقرية فذة من تناول وتشريح حقبة تاريخية،‮ ‬وشخصية هامة،‮ ‬في تاريخ ما يطلق عليه العرب‮ "‬الحضارة العربية الإسلامية‮". ‬من هنا تحديدا لم يكن‮ ‬غريبا علي هذا الأديب الكاتب المفكر أن يضع عنوان‮ "‬الخليفة المأمون-لمحة تاريخية‮"‬،‮ ‬وهو العنوان الأصلي لمقال جوجول‮.‬
جوجول يكتب عن المأمون‮:‬ المأمون الخليفة الذي مات دون أن‮ ‬يفهم شعبه أو‮ ‬يفهمه شعبه
لم يحدث أن تسلم مقاليد الأمور في زمن كانت فيه الدولة في أوج عظمتها وقمة مجدها كما حدث مع الخليفة المأمون‮. ‬كانت الخلافة العباسية العظيمة آنذاك قد امتدت إلي كل أصقاع العالم القديم،‮ ‬فوصلت حدودها الشرقية إلي جنوب شرق آسيا لتنغلق علي الهند،‮ ‬وامتدت‮ ‬غربا بطول الساحل الأفريقي حتي جبل طارق‮. ‬وجالت بواخر أسطولها الضخم وصالت بحرية تامة عند شواطئ البحر الأبيض المتوسط‮. ‬وكانت بغداد،‮ ‬عاصمة هذه الإمبراطورية الجديدة،‮ ‬تنظر من أعلي إلي هذا العالم وهو مستعد للانصياع إلي أقل بادرة تصدر عنها‮. ‬وكانت بصري ونيسابور تنظران إلي بغداد وشعوب آسيا،‮ ‬التي اعتنقت الإسلام لتوها،‮ ‬تتهافت بحثا عن المعرفة في مدارسها‮. ‬أما دمشق فكانت لا تزال تتحف العالم بأجمل الأقمشة وأندرها،‮ ‬وتروي عطش أوروبا إلي السيوف الفولاذية التي لا يعرف أحد سر صناعتها سوي دمشق‮. ‬وبدأ الإنسان العربي يفكر كيف يمكن إقامة تلك الجنة التي وعده بها النبي في الحياة الأخري‮. ‬فبني القنوات اللانهائية لسحب الماء،‮ ‬وشيَّد القصور الفارهة،‮ ‬وزرع‮ ‬غابات النخيل التي تتدافع في أنحائها نوافير الماء العذب،‮ ‬وتتصاعد من زواياها أبخرة عطور الشرق‮. ‬كانت الأخلاق لا تزال عميقة الجذور في أعماق الإنسان،‮ ‬ولم يكن قد أصابها بعد الترف والبذخ بأمراض الحياة السياسية المعروفة‮. ‬وكانت أجزاء الإمبراطورية العظيمة-عالم محمد هذا-لا تزال مرتبطة بقوة تعود إلي جهود الخليفة هارون الرشيد،‮ ‬هذا الرجل البارع الذي استطاع أن يستوعب كل خصوصيات شعبه ومواهبه العديدة المتنوعة،‮ ‬لأنه لم يكن بالحاكم الفيلسوف أو العسكري أو الأديب،‮ ‬وإنما كان جميعهم في آن واحد‮. ‬بداية التنويرلقد تمكن هذا الخليفة من إدارة الحكم‮ ‬دون أن يترك لأية صفة من الصفات المذكورة فرصة ترجيح الميزان علي حساب‮ ‬غيرها‮. ‬ولذا استطاع أن يدخل التنوير الأجنبي إلي شعبه بتلك الدرجة التي تساعده علي تطوير خصائصه الذاتية‮. ‬وكان العرب في ذاك الحين قد تجاوزوا مرحلة التعصب والفتوحات،‮ ‬ولكنهم كانوا لا يزالون ممتلئين حماسة للدين،‮ ‬يسيرون علي تعاليمه،‮ ‬وتردد ألسنتهم سور القرآن بنفس الخشوع السابق‮. ‬لقد قام هارون الرشيد بزرع بذور الخوف في نفوس رجال الدولة وجعلهم يديرون شؤون البلاد بطريقة مثالية من دون تلكؤ لقناعتهم المطلقة بأن الرشيد يمكن أن يظهر أمامهم في أية لحظة‮. ‬أما أمراء المقاطعات والحكام المحليون،‮ ‬الذين جرت العادة أن يطمح كل منهم إلي الاستقلال عن الدولة الكبري ليحوز علي جزء خاص به يمارس عليه سيادته،‮ ‬فقد كانوا في خوف دائم من لقاء هذا الحاكم المطلق الذي لا يخفي عليه شيء والذي يمكن أن يظهر فجأة متخفيا في ثياب أخري،‮ ‬ليكشف نواياهم‮. ‬وكانت الدولة تسير دون قانون ولكن ضمن نظام ثابت ومحدد بفضل حكمة هارون الرشيد‮. ‬كان هذا هو حال الدولة عندما تسلم مقاليد الحكم فيها الخليفة المأمون،‮ ‬هذا الرجل الذي سجل التاريخ اسمه كواحد من أولئك الرجال القلائل الذين أغدقوا علي البشرية بأفضالهم‮. ‬المأمون-هذا الحاكم،‮ ‬الذي كان يطمح إلي تحويل دولة السياسة إلي دولة الإبداع،‮ ‬وهبه الله عقلا ثاقبا وطاقة دؤوبة علي الدراسة‮. ‬المأمون-ذلك الرجل النبيل والذي لا حدود لنبله،‮ ‬ولا طموح لديه سوي السعي نحو الحقيقة‮.. ‬العاشق للعلم والذي لا ينتظر من معشوقه مكرمة،‮ ‬لأنه فقط،‮ ‬وفقط أَحَبَّه ومنحه ذاته بعاطفة جموحة لا حدود لها،‮ ‬ومن دون التفكير في الحسابات والأهداف‮. ‬كان العرب في ذاك الوقت قد اكتشفوا أرسطو لتوهم‮. ‬غير أن هذا الفيلسوف الإغريقي الذي يتميز تفكيره بالدقة الرياضية لم يستطع التواؤم من الخيال العربي‮: ‬السريع جدا،‮ ‬والرحب جدا،‮ ‬والشرقي جدا‮. ‬ولكن العلماء العرب عكفوا بدأب وإصرار عليه إلي أن تمكنوا من اعتياد شكليته ودقته،‮ ‬وظلوا يتابعون العمل علي مؤلفات أرسطو‮. ‬وبالتالي كانت لنتائج أرسطو الفكرية،‮ ‬وللنظام الذي أجاب فيه علي التساؤلات التي كانت تتوهج في ذهن العربي،‮ ‬صورا متفرقة من دون أن يتمكن من تجميعها في لوحة شمولية كي يمكنه الإجابة عليها‮. ‬كانت لنتائج أرسطو وقع السحر في نفوس العلماء العرب ومعهم المأمون الممتلئ حماسة للتنوير،‮ ‬والذي تربي علي هؤلاء العلماء،‮ ‬وبذل كل ما بوسعه لكي يُدْخِل هذا العالم الإغريقي الغريب إلي عالم أمته‮. ‬جمهورية حاملي المعرفةوهكذا فتحت بغداد ذراعيها برحابة‮ ‬لاستقبال كل العقول المتنورة في العالم كله‮. ‬وأغدق الخليفة عطاياه علي كل من حصل علي درجة علمية أيا كانت،‮ ‬وأيا كان دينه،‮ ‬ومهما بلغ‮ ‬عمق تناقضاته الداخلية‮. ‬وكان أكثر من حمل المعرفة إلي بغداد هم أولئك الذين لا يزالون يحملون في أعماقهم بقايا الوثنية المتشحة بالأشكال المسيحية،‮ ‬وغيرهم من أتباع الإفلاطونية الجديدة بعد أن‮ ‬غادروا القسطنطينية الغارقة في جدل عقيم حول العقيدة المسيحية‮. ‬وتحولت بغداد إلي جمهورية تضمم حاملي جميع أشكال المعرفة بمختلف آرائهم‮. ‬ويجلس المأمون متربعا علي عرشه يستمع إلي مناظرات العلماء،‮ ‬فتنساب موسيقاها إلي روحه لتروي عطشه المعرفي‮. ‬وما كان من حكام المقاطعات وأمرائها إلا أن حذوا حذو خليفتهم‮. ‬وأصيب كبار رجال الدولة بـ‮ "‬منومانيا الأدب‮". ‬وأخذ كل أمير أو وزير يسعي إلي اجتذاب العلماء إلي بلاطه من الخارج،‮ ‬ولم يعد يخفي علي أحد أن تصريف أمور الدولة صار بالنسبة لرجال السياسة في المرتبة الثانية‮. ‬وأخذ الحكام يسلمون قيادة الأمور إلي نوابهم ومحظييهم الذين كانوا في كثير من الأحيان من الجهلة الذين حصلوا علي مواقعهم بسبب لجاجتهم‮. ‬وكان لابد في نهاية الأمر أن ينعكس ذلك الوضع سلبا علي الناس ليرتد بعد ذلك بالنقمة علي رؤوس الحكام‮. ‬فتلك الجموع من الفلاسفة النظريين والشعراء الذين يحتلون مواقع حكومية سياسية لا يستطيعون توفير الحزم اللازم لإدارة شؤون الدولة،‮ ‬لأن مجال عملهم يختلف تماما،‮ ‬وكانوا يستفيدون من الحظوة الممنوحة لهم ليتابعوا بحوثهم الخاصة‮. ‬ومن الممكن بالطبع استثناء بعض الشعراء الكبار الذين استطاعوا أن يجمعوا بين الفلسفة وعلم التاريخ،‮ ‬وتمكنوا من سبر أغوار الطبيعة والإنسان،‮ ‬واستوعبوا الماضي،‮ ‬وقدروا ما يمكن أن يحدث في المستقبل،‮ ‬وكان صوتهم في الوقت نفسه يصل إلي الشعب‮. ‬غير أن أولئك كانوا قلة قليلة من الكهنة علي مذبح الفكر‮. ‬وكان رجل السلطة الحكيم يكتفي بالتحدث إليهم،‮ ‬ويحرص علي حياتهم،‮ ‬ويخشي أن يثقل عليهم بأعباء الحكم،‮ ‬ولكنه كان يدعوهم إلي تلك المجالس التي تناقش أهم القضايا،‮ ‬نظرا لأنهم كانوا يستطيعون سبر أغوار النفس البشرية‮. ‬الفيلسوف النظريكان المأمون-هذا الرجل النبيل-يطمح‮ ‬بشدة إلي إسعاد رعيته،‮ ‬ويعرف أن الطريق الوحيد إلي ذلك هو العلم الذي يهدف إلي تطوير الإنسان‮. ‬لذا حاول بكل ما أوتي من قوة أن يرغم شعبه علي قبول مبادئ التنوير التي أدخلها‮. ‬غير أن هذا التنوير كان أقل ما يمكن أن يلائم خصائص الإنسان العربي الطبيعية وخياله الجامح‮. ‬كانت الأفكار المسيحية القادمة من الخارج قد فقدت حتي ذلك الحين طاقتها الملهمة التي كانت عليها عند بداية التوحيد،‮ ‬وتحولت إلي كم هائل من المفردات‮. ‬وعلي الرغم من أن هذه الأفكار تمكنت من أن تضئ العلوم بنور‮ ‬غريب،‮ ‬إلا إنها لم تتمكن من الالتحام معها-أي العلوم-لتشكل وحدة متناغمة،‮ ‬بل يمكن القول إنها قضت عليها بسب طغيانها‮. ‬تلك الأفكار الغريبة التي حملها هؤلاء جاءت مناقضة لطبيعة الرجل العربي النارية،‮ ‬فغرقت في خياله نتائج العقل البارد هذه‮. ‬هذا الشعب العجيب لم يكن يسير في بطئ علي طريق التطور،‮ ‬بل كان يتقدم علي الطريق طائرا‮. ‬وتبدت عبقريته في كل المجالات‮: ‬في الحرب،‮ ‬والتجارة،‮ ‬والفنون،‮ ‬والصناعة،‮ ‬والشعر،‮ ‬ذلك الشعر الشرقي الذي يخلب الألباب‮. ‬وتفجرت قصائده،‮ ‬تلك القصائد التي لم يعرف تاريخ البشرية مثلها حتي اليوم،‮ ‬غنية مشرقة فائقة التميز والغرابة‮. ‬وكان يبدو أن هذا الشعب سوف يصل إلي الكمال الذي لم يبلغه أحد من قبل‮. ‬ولكن المأمون عجز عن فهمه،‮ ‬وتجاهل أمرا لا يمكن الاستهانة به،‮ ‬ألا وهو أن الثقافة يجب أن تُستعار بدرجة ملائمة لتطور الخصائص الذاتية للشعب لا أكثر ولا أقل‮. ‬وأن الشعب يتطور وفقا لعفويته القومية‮. ‬وهكذا أحاط سياج التنوير العاقر بتلك الميادين التي تبدت فيها بطولات الإنسان العربي‮. ‬فمشاعر‮ "‬الكوسموبوليتان‮" ‬التي فاضت بها روح المأمون تجاوزت الحدود،‮ ‬وجعلته يفتح أبواب إمبراطوريته أمام جميع العلماء من كل حدب وصوب‮. ‬وأيقظت الامتيازات التي منحها الخليفة للمسيحيين مشاعر الكراهية في أبناء أمته،‮ ‬وتأججت مشاعر الاحتقار لكل ما يحمله هؤلاء بصرف النظر عن كونه صالحا أو طالحا،‮ ‬وغابت مشاعر الحب التي كان يحملها الشعب لخليفته،‮ ‬لأن المأمون كان فيلسوفا نظريا أكثر منه فيلسوفا عمليا،‮ ‬كما ينبغي للحاكم أن يكون‮. ‬لم يكن المأمون يعرف عن حياة شعبه إلا ما سمعه من الآخرين من حكايات‮. ‬ولم تكن لديه خبرة شخصية مثلما كان الأمر مع أبيه هارون الرشيد‮. ‬ففي أشكال الحكم الآسيوية،‮ ‬التي لا يحكمها القانون،‮ ‬تقع أعباء الإدارة كلها علي كاهل الحاكم المطلق‮. ‬لذا يجب أن يتميز بنشاط فائق،‮ ‬ويبقي متنبها علي الدوام لكل صغيرة وكبيرة،‮ ‬لا يمنح ثقته لأحد،‮ ‬وعينه كعين أرجوس الأسطوري تستطيع أن تري كل ما يجري في جميع الاتجاهات‮. ‬فهو إن سها لحظة،‮ ‬تكاثر عدد ولاته الذين يتمتعون بصلاحيات مطلقة،‮ ‬وامتلأت الدولة بعدد لا يحصي من الطغاة الصغار‮. ‬لكن المأمون عاش في بغداد كما لو إنه صاغها بنفسه مدينة للإلهام بعيدا عن السياسة‮. ‬ولم يكن بإمكان المسيحيين الغرباء-الذين بدءوا يتخلون في شؤون الحكم-أن يفهموا روح الشعب ويعرفوا عاداته‮. ‬كما أن انتماءهم إلي دين آخر لم يكن يحتمل بالنسبة للعربي الذي كان لا يزال متحمسا متعصبا لدينه‮. ‬وهكذا،‮ ‬ففي الوقت الذي كانت فيه ألسنة العلماء تمدح المأمون،‮ ‬وبينما كان كرمه وحسن ضيافته يستقطب إلي شواطئ سوريا كافة أجناس البشر،‮ ‬كانت سلطته في المقاطعات آخذة في الأفول‮. ‬ولم يعد اسمه يعني الكثير لسكان المناطق البعيدة الذين لم يروه يوما‮. ‬وضعفت قوة الدولة العسكرية‮. ‬أما أشعة التنوير التي انطلقت من المركز‮ (‬بغداد‮) ‬فقد كانت قوتها تخبو تدريجيا كلما اتجهت نحو حدود الإمبراطورية النائية والتي كان العرب عندها لا يزالون يحتفظون بتعصب الأزمنة الماضية،‮ ‬والجنود علي أهبة الاستعداد في أية لحظة لنشر دين محمد بالنار والسيف‮. ‬وإذ شعر أمراء تلك المناطق بضعف الصلة مع بغداد،‮ ‬بدءوا يفكرون في الاستقلال عنها،‮ ‬ورأي المأمون بأم عينيه كيف تقلصت حدوده،‮ ‬فانشقت عليه بلاد فارس والهند والمقاطعات الأفريقية الأبعد‮. ‬الكتاب في‮ ‬يد والسلاح‮ ‬في الأخريربما كان من الممكن إصلاح هذا الاتجاه‮ ‬الخاطيء في إدارة شؤون الدولة،‮ ‬ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد‮. ‬لقد حاول المأمون أن يكون مصلحا دينيا،‮ ‬فقرر أن يقوم بإصلاح‮ "‬القرآن‮" ‬في الوقت الذي كان فيه جميع رجال الدولة الأقل شأنا،‮ ‬والشعب كله بلا استثناء يؤمنون إيمانا مطلقا بأن القرآن مُنَزَّل من عند الله،‮ ‬وأي تشكيك في هذا،‮ ‬مهما قل شأنه،‮ ‬هو جريمة لا تغتفر‮. ‬لم يستطع عقل المأمون نصف الإغريقي أن يدرك حماس رعيته الذي لا حدود له،‮ ‬بل اعتبر أن الخطوة الأولي في إعادة التنوير إنما هي في القضاء علي هذا الحماس الذي يمثل جوهر الروح العربية،‮ ‬ومحرك تطورها الذي تمخضت عنه هذه الحقبة التاريخية الفذة‮. ‬وبالتالي فإن أية محاولة لزعزعته كان من شأنها هدم أركان الدولة‮. ‬لقد تجرأ المأمون واعترض علي تلك الجنة التي وعد بها النبي شعبه،‮ ‬والتي أسبغ‮ ‬عليها كل صفات الحياة الحسية‮. ‬لم يأخذ المأمون بعين الاعتبار أن هذه الجنة بالنسبة للمسلم إنما هي واحة عظيمة في صحراء حياته‮. ‬وأن الأمل في هذه الجنة بالذات يُمَكِّن العربي الحسي من تحمل الفقر والاضطهاد،‮ ‬ويساعده علي خنق الحسد في روحه لدي رؤيته لأولئك الغارقين في النعيم،‮ ‬ويصور له خياله الحسي الصارخ أنه هو أيضا سيكون ذات يوم محاطا بالجواري وسيغرق في نعيم يفوق كل ما هو ممكن علي هذه الأرض الزائلة‮. ‬ليس من الصعب إذن أن نتخيل درجة الاستياء التي أثارها انتشار الأخبار عن محاولات المأمون الإصلاحية،‮ ‬وكيف كانت ردود الأفعال علي ذلك بعد أن أثارت حفيظة الشعب واستفزته كل تلك الامتيازات الهائلة التي حصل عليها المسيحيون،‮ ‬وتَعَلُّق الخليفة بهم‮. ‬فاتُّهِمَ‮ ‬المأمون بالهرطقة،‮ ‬وبالتالي تمكنت تلك الفئة الدينية الحريصة علي تنفيذ القرآن بحذافيره من دفع المأمون إلي استخدام السلاح‮. ‬وهكذا أشهر الخليفة-هذا الرجل النبيل المليء حبا لرعيته-سلاحه في وجه شعبه‮. ‬فأيقظ من جديد التعصب لدي العربي،‮ ‬ولكنه كان تعصبا من نوع جديد،‮ ‬لم يكن ذاك التعصب الذي جعل سكان الجزيرة يحملون راية النور ويندفعون كتلة واحدة إلي الأمام،‮ ‬إنما تعصب رجعي مزق تلك الوحدة وزرع بذور الشقاق في أركان الدولة الواحدة،‮ ‬وأيقظ مشاعر العربي البدائية،‮ ‬وبث سموم الكراهية في نفوس المسلمين البواسل،‮ ‬وخلق العديد من الفئات الدينية المتطرفة،‮ ‬وكانت فرقة القرامطة أكثرها تطرفا واستمرت في طغيانها فترة طويلة من الزمن‮. ‬هكذا انتهي المأمون وهو يغدق بيد كريمة علي أعمال الخير والفنون والمدارس والعمال،‮ ‬ويقتل باليد الأخري المدافعين عن الدين الحنيف،‮ ‬فانتهي في زمن اجتاحت فيه الاضطرابات السياسية البلاد‮. ‬ومضي من دون أن يفهم شعبه،‮ ‬ومن دون أن يفهمه شعبه‮. ‬فهو بالرغم من رغبته الشديدة في صنع الخير،‮ ‬وحبه المخلص اللامحدود للعلم،‮ ‬كان ومن دون أن يقصد أحد الأسباب الرئيسية التي سارعت بانهيار الإمبراطورية العربية‮. ‬

دراسة حالة( 1 ) فى تطبيقات لاهوت العنصرية الإسرائيلية فى التاريخ الحديث ” النموذج الروسى”

دراسة حالة( 1 ) فى تطبيقات لاهوت العنصرية الإسرائيلية فى التاريخ الحديث ” النموذج الروسى”


بقلم : أحمد عزت سليم
تكاد أن تكون مقولة : أن اليهود قد استولوا على الحياة الروسية قديماً وحديثاً حقيقة مؤكدة مثلها فى ذلك مثل الحقيقة القائلة بالرفض العميق لليهود داخل التشكيل الحضارى الروسى واعتبار أن اليهودى هو الغريب .ويمكن القول أن الحقيقة الثانية هى نتاج الحقيقة الأولى، ذلك لأن النشاط اليهودى الذى شهدته روسيا سواء فى عصرها القيصرى أو الشيوعى كان من الفاعلية والتأثير وبمكان غاية فى الوضوح بحيث لا يمكن للقريب أو البعيد إلا أن يلمس هذا النشاط ، ويجوس فى أحشائه التى قد تلتف عليه هو أيضاً وتأخذه إلى غياهب فعاليتها وأنزيماتها المدمرة !!فمن المؤكد الذى لا شك فيه أن اليهود أنفسهم قد ساهموا فى تأكيد هذه الحقيقة أو تلك، بداية من مقاومتهم لحركات الانصهار داخل المجتمع الروسى ، وتأكيدهم المستمر فى الحفاظ على شخصيتهم الانعزالية اليهودية وتقاليدهم العبرية ، والتمسك بها، فتمردوا على قوانين الخدمة العسكرية التى أصدرها نيقولا الأول قيصر روسيا عام 1827م، والتى قضت بتجنيد اليهود أسوة بسائر المواطنين وألزمتهم بالتعبيرعن ولائهم للدولة بالانخراط فى جيشها الذى يزود عنها وقد ناوؤه وعملوا منذ ذلك الحين على مناهضته نظام الحكم فى روسيا ومظاهرة كل حركة ثورية ترمى إلى الانقضاض عليه ” وليس هناك ما يصف حياة اليهود وأساليبهم الحياتية والتجارية خيرا من عبارات كارل ماركس اليهودى ذاته : بأنهم يمارسون تجارة هامشية طفيلية تعيش على تخلف المجتمعات وتتسلل إلى الشقوق الناجمة عن التخلف واشتغلوا بتجارات مشينة مثل تجارة الرقيق، واحتكارهم لبعض السلع الأساسية مثل السكر والملح وكانوا يصدرون الفتيات اليهوديات من منطقة الاستيطان فى روسيا عبر جاليشا إلى العالم الجديد….، بالإضافة إلى عملهم فى التهريب الواسع لمثل هذه السلع ويصف ديستو يفسكى حالة اليهود فى روسيا : ” اليهود كانوا يجتنبون الروس فى الكثير ، يرفضون الأكل معهم، وينظرون إليهم باستعلاء ( وأين كان ذلك ــ فى السجن!)، بل وكانوا يبدون تقززهم واشمئزازهم ونفورهم بشكل عام من كل ما هو روسى، ومن الشعب ” الأصلى “. ونفس الشئ فى معسكرات الجنود ، وفى كل مكان فى أنحاء روسيا : اذهبوا بأنفسكم واسألوا، هل يهينون اليهودى فى المعسكرات كيهودى، كـ ” جيد ” بسب الديانة والعادات ؟ لا يضايقونهم فى أى مكان ، وهكذا الحال بين أفراد الشعب . على العكس ، أؤكد لكم أنه فى المعسكرات كما فى أى مكان، الروسى البسيط يرى الكثير ويفهم جيداً ( اليهود أنفسهم لا يخفون ذلك ) أن اليهودى يرفض الأكل معه، يتجنبه ويحتاط منه قدر المستطاع، ولكن بدلاً من أن يغضب الروسى ويتضايق من ذلك، يقول فى هدوء ووضوح: ” هكذا هو دينه، وهو الذى يفرض عليه ألا يأكل معنا، وأن يتجنبنا ” ( أى لا لأنه شرير )، وحين يدرك الروسى هذا السبب السامى، يغفرلليهودى من أعماق روحه ومع ذلك فقد راودتنى أحياناً فانتازيا :ماذا لو لم يكن اليهود فى روسيا هم الثلاثة ملايين، وإنما الروس، بينما كان اليهود هم الثمانين مليوناً ؟ ففى أى شىء كان الروس سيلجأون إليهم فيه ، وكيف كان اليهود سيسـتخـفـون بهم ؟ هل كان من الممكن أن يمنحونهم حقوقاً متساوية مقارنة بأنفسهم ؟ هل كان من الممكن أن يتيحوا لهم فرصة الصلاة بينهم فى حرية ؟ أم أنهم كانوا سيحولونهم إلى عبيد لديهم ؟ والأسوأ من ذلك أن يسلخوا جلودهم تماماً ؟ وربما ضربوهم ليصل الأمر إلى الجلد، إلى الإبادة التامة كما فعلوا مع الشعوب الأخرى قديماً، فى تاريخهم القديم ؟ فاليهودية تزدهر فى تلك الأماكن التى يكون فيها الشعب جاهلاً فظاً أو غير حر، أو متخلف اقتصادياً ـ هناك فقط يصيرون سادة وأحراراً، وتصير أمورهم على ما يرام !، وبدلاً من أن يحدث العكس، بأن يرفعوا بنفوذهم مستوى التعليم، ويعملوا على زيادة المعرفة، وتوليد القدرة الاقتصادية لدى السكان الأصليين. بدلاً من كل ذلك نجد اليهودى أيمنا حل وأقام، أذل الشعب وأفسد فيه أكثر فأكثر، وازدادت البشرية ذلاً وخنوعاً، وتدنى مستوى التعليم أكثر، بل وانتشر بشكل أفظع.. فقر محكم غير إنسانى ينمو معه اليأس ويترعرع. اسألوا السكان الأصليين فى أنحاء بلادنا، ماذا يحرك اليهود، وماذا حركهم طوال القرون الماضية ؟ شئ واحد فقط، هو عدم الرحمة تجاهنا، وفقط الارتواء بعرقنا ودماءنا . وبالفعل فمجمل نشاط اليهود فى جميع أرجاء بلادنا لا يتركز إلا فى وضع السكان الأصليين قدر المستطاع فى حالة تبعية مطلقة لهم وذلك باستغلال القوانين المحلية، حيث تحايلوا على الدوام لإيجاد الثغرات فى اللوائح القوانين. وكانت لديهم دوماً القدرة على نسج العلاقات مع هؤلاء الذين بأيديهم مقدرات الشعب، حتى أنه لم يعد يحق لهم أن يتذمروا أو يهمهموا بأى شئ عن حقوقهم القليلة بالمقارنة بالسكان الأصليين. لقد حصلوا لدينا على حقوق كثيرة إذا ما قورنت بما لدى السكان الأصليين، وقد كشفت مجاعة عام 1797 والتى تعرض لها الشعب الروسى عن احتكار اليهود للسكر ، مما تسبب فى أزمة خطيرة عانى منها الفلاحين الروس ، وتحكمهم فى صناعة الخمور وإدارة الحانات، وأثبتت لجنة الشاعر الروسى السناتور جافريل دير جافين هذه الحقيقة فى استغلال أزمة السكر والخمور فى التلاعب بالشعب الروسى” ، ووصل الأمر إلى أن اليهود قد انقضوا على السكان الليتوانيين الأصليين وكادوا يقضون عليهم جميعاً بالفودكا ، ولم ينقذ هؤلاء السكارى المساكين سوى القساوسة الكاثوليك حيث هددوهم بعذاب الجحيم وأقاموا بينهم جمعيات الامتناع عن تعاطى الخمور .. كما أن الاقتصاديين المثقفين قد هبوا فى أثر رجال الدين، وبدأو فى إقامة بنوك قروية لإنقاذ الشعب تحديداً من المرابى اليهودى، كما قاموا بإنشاء الأسواق الريفيـة حتى تتمكن ” الجماهير الفقيرة الكادحة ” من الحصول على متطلباتها الضرورية بالأسعار الحقيقية، وليس بالسعر الذى يحدده اليهودى . . وكان احتراف الربا وابتزاز أموال المواطنين عن طريقه السبب الرئيسى للثورة التى قام بها الروس ضد اليهود عامى 1881،1882، فى قطاع السكن الذى كان مسموحاً لهم بالإقامة فيه فى المناطق الروسية الغربية، وقد اعتبرت السلطات الرسمية ذلك التيار الاضطهادى انتفاضة من أغلبية السكان على المرابين اليهود الذين كانت ما تزال الحدود مفتوحة فى وجوههم وترتب على ذلك إصدار قوانين حدت من حق اليهود فى السكن ووسائل المعيشة فاصدر القيصر إسكندر الثالث قوانين مايو 1882 التى حددت إقامة اليهود وأرغمتهم على ترك مساكنهم فى القرى والضواحى والقبوع فى المدن التى أذن لهم بالمقام فيها ولم يكن الأمر مقتصراً على ذلك فقد ارتبط اليهود ــ قبلاً ــ بأعداء البلاد الأجانب مما دفع الروسيين طوال تاريخ طويل إلى الإيمان بأن اليهودى هو الغريب، وقد اصطحب مغتصبى العرش البولنديين الكثير من اليهود كصنائع لهم، وقد ارتبط هؤلاء بالتهريب والرهونات والتلاعب بالأسعار والدخول فى منافسات مع التجار المسيحيين بالطرق الشرعية وغير الشرعية، وقد تطور خطورة هذا الأمر إلى أن أصدر فرمان عام 1791 يحظر على اليهود الاتجار خارج روسيا البيضاء. كما استخدم نابليون بونابرت أعضاء الجماعات اليهودية فى روسيا واستعملهم كطابور خامس خلال حربه مع الروس وقد تحول أقنان الملك عام 1801 عندما ضمت إلى روسيا جورجيا إلى أقنان الخزانة، وكان عليهم دفع ضريبة للخزانة ، وقد سام هؤلاء ــ اليهود الأقنان ــ الشعب الروسى العذاب فى تحصيل الضرائب واستخدموا كأداة غليظة فى قهر الشعب الروسى، وقد جلب هذا الكره الشديد لأعضاء الجماعات اليهودية فى روسيا .وكما يقول ديستويفسكى : بالطبع تَرد على ذهنى الآن هذه الفكرة الخيالية: ماذا لو أنهارت، على نحو ما ولسبب ما، الجمعية الزراعية التى تحمى فلاحنا المسكين من أخطار عديدة ؟ ماذا لو أجتاح اليهود هذا الفلاح المتحرر لتوه، والذى لا يملك الخبرة الكافية، أو يمكنه مقاومة الإغراءات التى قامت بحمايته منها الجمعية الزراعية ؟ سوف تكون لحظة نهايته: ستنتقل فى الحال أملاكه وقواه جميعاً إلى قبضة اليهودى، وسيحل ذلك الزمن الذى لا يمكن مقارنته بزمن نظام الرق والعبودية، بل وحتى بزمن الاحتلال التتارى. وهل يمكن التصديق على أن اليهودى ليس هو الذى كثيراً ما اتحد مع ظالمى هذا الشعب، وكثيراً ما تعهد لهم بضبط الشعب الروسى، ومن ثم تحول هو نفسه إلى ظالم له ؟ لقد حدث كل ذلك بالفعل، وهذا تاريخ، وحقيقة تاريخية، ومع ذلك فلم نسمع قط أن الشعب اليهودى قد ندم على ذلك ، وفى ذات الوقت لا يزال يتهم الشعب الروسى بأنه لا يحبه.ومنذ أزمنه طويلة وممتدة كان اليهود يمارسون الجرائم البشعة ضد الروس انطلاقاً من التعاليم التلمودية التى تدعو صراحة إلى سفك دماء الأغيار واعتبار الضحية قرباناً ولأن هؤلاء الأغيار مغدرون من الشيطان ويجب التخلص منهم بكل طرق السرقة والنهب والغش الفاحش والقتل فالدم المسيحى ضرورى لإتمام بعض الطقوس الدينية، وقد روى الحاخام تاونطيوس الذى اعتنق المسيحية أن الصهيونية هى التى فجرت نيران الحربين العالميتين الأولى والثانية التى راح ضحيتها الملايين من المسيحيين وقدم لنا أهم حوادث الذبح البشرى المشهورة التى عنى بجمعها الاستاذ ارنولدليز، والتى ارتكبها اليهود، ونذكر فيها بعض ما يخص ورسيا، ففى سنة 1823 فى فاليزوبا قام اليهود فى عيد الفصح بقتل طفل فى الثانية والنصف من عمره ووجدت بجثته جروح عديده من وخز مسامير حادة فى جميع أنحاء الجسم واعترفت ثلاث سيدات يهوديات بسرقتهم للطفل لأغراض مقدسة ووصفن الطريقة المجرمة التى عذب بها الطفل حيث تم وضعه على منضدة وأخذوا يتلذذون بوخزه بالمسامير الحادة حتى سال دمه كله فجمعوه فى قوارير ثلاث سلمت لرجال الدين اليهودى ، وفى عام 1831 فى بطرسبرج عثر على جثة طفلة مصلوبة ومستنزفة بفعل يهودى ، وفى ساراتوف اختفى غلام فى العاشره فى كانون أول 1852 وفى كانون ثانى 1853 اختفى غلام فى الحادية عشر من العمر وعثر على الجثتين على ضفاف نهر الفولجا. وفى عام 1911 عثر فى كييف على جثة الغلام جوتنسكى بالقرب من مصنع يهودى وبها جروح عديده ورغم موت الطفلتان الشاهدتان الرئيسيتان فى القضية نتيجة تناولهما حلوى مسممة قدمها لهما اليهودى كراسوفسكى ومحاولة تهديد الأم ورشوتها فقد حكم على بيليس اليهودى ابن صاحب المصنع بالسجن مداناً بهذه القضية ، وقد أفرج اليهود عقب الثورة البلشيفية عنه وانتقموا فى الأيام الأولى من الثورة من القاضى والمدعى العام والأطباء والراهب وجميع مما كان لهم صله بهذه القضية .ولم تسلم الدولة السوفيتية من هذه الجرائم البشعة ففى عام 1953 قبض على عدد من الأطباء اليهود بتهمة قتل مريض بالأبر المسمومة، وفى عام 1963 ضبطت امرأة يهودية متهمة بثقب أذن طفلة من غير دينها لتحصل على قطرات لتمزجها بالفطير المقدس فى عيد الفصح اليهودى . ويضيف ديستويفسكى متسائلا :هل يمكن التصديق على أن اليهودى ليس هو الذى كثيراً ما اتحد مع ظالمى هذا الشعب، وكثيراً ما تعهد لهم بضبط الشعب الروسى، ومن ثم تحول هو نفسه إلى ظالم له ؟ لقد حدث كل ذلك بالفعل، وهذا تاريخ، وحقيقة تاريخية، ومع ذلك فلم نسمع قط أن الشعب اليهودى قد ندم على ذلك ،وفى ذات الوقت لا يزال يتهم الشعب الروسى بأنه لا يحبه. .( غواية إسرائيل ـ أشرف الصباغ ) . ولأن اليهود كانوا مصرين على التحدث باليديشية وهى رطانة ألمانية ولأن التوجه الثقافى ليهود روسيا فى القرن التاسع عشر كان توجهاً لألمانيا فى الأساس وللممارسات التاريخية السابق الإشارة إليها، أصدر القياصرة قراراً بعدم السماح لليهود بالسكن إلا على مسافة خمسين فرسخاً من الحدود الأوربية وذلك تعاونهم مع الدول المعادية ، ورغم ذلك كان التحدى اليهودى واضحاً للمشاعر الوطنية الروسية فعقدوا أول مؤتمر لأحباء صهيون على الحدود الألمانية الروسية وهو مؤتمر كانوفيتش .وقد تحدث أعضاء الجماعات اليهودية اللغات السرية لمناقشة الأمور التى تهمهم دون أن يفهمهم أحد من المحيطين بهم وخاصة فى الأسواق وهو ما كان يسهل عملية الغش التجارى والاحتيال، وقد قام موظف بروسى بإعداد معجم عن لغة اللصوص السرية فى أواخر القرن الثامن عشر وظهر أن كثيراً من هذه اللغة السرية ذات جذور عبرية أو أصل عبرى وقد أخذ هذا دليلاً على اشتراك أعضاء الجماعة اليهودية وتورطهم فى عالم الجريمة وكانت اليديشية تحل أحياناً محل اللغة السرية ، وكما قلنا، فهى رطانة ألمانية دخلت عليها مفردات سلافية وعبرية، فكان لا يفهمها سوى أعضاء الجماعات اليهودية فأصبحت اليديشية لغة الغش التجارى فى القرن الـ 19 ولذا حرمت الحكومات على اليهود استخدامها وقد استطاع اليهود بأيديهم كسب المزيد من الكره ، كان يخفف من وطأة رد الفعل الرسمى عليه الذهب الذى يمتلكون إياه، واستطاعوا أن يتمتعوا بدرجة عالية من الخصوصية داخل روسيا القيصرية باعتبارهم أقلية قومية وكان اليهودى يشعر بأنه بتخليه الكلى والغير مشروط عن خصوصيته ، يمسخ نفسه الأمر الذى كان ينفر كثيراً من أعضاء الجماعة، فوقفوا ضد محاولات الاندماج والانصهار داخل المجتمع الروسى مما زاد من عزلة هذه الجماعات . وعن ماهية فكرة العزلة اليهودية ، طبقا للتجربة الروسية ، يورد لنا الباحث أشرف الصباغ فى كتابه غواية لإسرائيل هذه الماهية :” أُخرج من بين الشعوب، وشكل ذاتك، وأعلم أنك الوحيد حتى الآن لدى الإله، أسحق الآخرين أو خذهم عبيداً. أو استغلهم. ثق بانتصارك على العالم كله، وثق بأن كل شئ سيخضع لك. تجنب الجميع فى حسم، ولا تشترك مع أحد فى معاشك. وحتى عندما تحرم من أرضك، ومن شخصيتك السياسية، حتى عندما تتشتت على وجه الأرض، بين كل الشعوب ـ سيان ـ ثق بأنك موعود بكل ذلك إلى الأبد، ثق بأن كل شئ سيكون. أما بعد، فَعش، وتجنب، واتحد، واستغل، وانتظر، وانتظر “..هذا هو جوهر فكرة الجيتو، وبعد ذلك طبعاً توجد قوانين داخلية، وربما سرية تحدد هذه الفكرة. إنكم أيها السادة اليهود والمدافعون المتعلمون تقولون إن كل هذا هراء، وإنه ” لوكان يوجد جيتو ( أى إنه كان، أما الآن فلم يتبقى منه سوى آثار ضئيلة )، فالمطاردات الدينية وحدها منذ العصور الوسطى وقبلها هى التى قادت إليه، وهى فقط التى ولدته. لقد ظهر هذا الجيتو فقط من إرادة البقاء، وإذا حدث واستمر ذلك، وخاصة فى روسيا، فإنه فقط بسبب أن اليهود حتى الآن غير متساويين فى الحقوق مع السكان الأصليين “. ولكن يبدو لى أن اليهودى حتى لو كان متساوياً فى الحقوق ، فلن يتخل بأى حال من الأحوال عن الجيتو. فضلاً عن ذلك فالتصميم على الإشارة بأن المطاردة وإرادة البقاء هما السبب فى وجود الجيتو شئ غير كاف أو مقنع، كما لو أن الإصرار على البقاء لم يكن كافياً طوال أربعين قرناً، فكم من مضجر وممل ذلك الإصرار على الحفاظ على النفس طوال هذه الفترة. وكم من حضارة قوية فى العالم لم يصل عمرها حتى إلى نصف الأربعين قرناً وفقدت السياسة ومظاهرها القبلية. فليست إرادة البقاء وحدها إذن هى السبب الرئيسى، ولكنها فكرة أخرى متحركة ومسيطرة، شئ ما كونى ربما لا يكون بوسع البشرية بعد إصدار حكمها النهائى عليه كما قلت آنفاً، حيث الطابع الدينى فى الغالب موجود ـ وهذا مما لا شك فيه. وإن خالقهم المدعو بالإله الأول يهوا بمثله الأعلى وبعهده لا يزال يقود شعبه نحو الهدف الأكيد، وهذا بالطبع واضح تماماً، وإننى مازلت أكرر أنه من المستحيل حتى تصور يهودى بدون إله، فضلاً عن أننى لا أثق حتى فى المثقفين اليهود الملحدين: إنهم جميعاً ليسوا إلا جوهراً واحداً، ولا يعلم إلا الله ماذا ينتظر العالم من اليهود المثقفين ! لقد قرأت فى طفولتى وسمعت أسطورة عن اليهود تحكى بأنهم ينتظرون فى إصرار حتى الآن المسيح المنتظر، كلهم على حد سواء، بداية من أبسط جيد حتى أرفع العلماء والفلاسفة والحاخامات، وإنهم جميعاً مازالوا يؤمنون بأن المسيح المنتظر سوف يجمعهم ثانية فى القدس، وسيلقى بسيفه جميع الشعوب تحت أقدامهم، الأمر الذى يجعل اليهود، أو فى أبعد الأحوال غالبيتهم العظمى، لا يفضلون إلا مهنة واحدة : تجارة الذهب وصناعته بكثرة من أجل ألا يملكوا وطناً، وألا يكونوا مرتبطين بأرض غريبة، كل ما فى الأمر أن يكون كل ما لديهم، وكل ممتلكاتهم مجرد ذهب ومجوهرات. وهذا كله لحين ظهور المسيح المنتظر حتى يسهل حمل ونقل كل شئ وقتئذ.حينما يتلألأ شعاع الفجرويضطرم، وتعزف المزاميروالآلات النحاسية والدفوفسنحمل الفضة والخير،والمقدسات إلى البيت القديم،إلى فلسطين.كل ذلك، أكرر، سمعته كأسطورة . إلا أننى واثق بأن جوهر الأمر موجود حتماً، وبالذات داخل مجمل جماهير اليهود على شكل ميل غريزى يستحيل مقاومته ، ولكن من أجل الحفاظ على جوهر هذا الموضوع فلابد طبعاً من الحفاظ على أدق وأصرم أشكال الجيتـو، وهذا ما تم الحفاظ عليه، ومن ثم فأسباب وجوده لم تكن أبداً المطاردات وحدها، وإنما فكرة أخرى كانت ومازالت ..وانتشرت الجماعات اليهودية التى تحاول تدعيم الثقافة اليهودية داخل المجتمع الروسى والحفاظ على الشخصية الانعزالية لأعضائها وسيادة التعاليم العبرية وقد لعبت جمعية التنمية الثقافية بين يهود روسيا دوراً رائداً فى هذا المجال، وخاصة أن الأثرياء اليهود فى روسيا خاصة فى سانت بطرسبرج . قد ساهموا بالمال والذهب فى دعم هذه الجمعية، وخاصة عائلة ليوروزنتال وجونزبورج ، وحاولوا إعادة اللغة العبرية وتجميع أراء الحاخامات الواردة فى التلمود وإصدارها باللغة العبرية عام 1871 ثم بالروسية عامى 1876،1874 . وخصصت منحاً لمؤلفى الكتب باللغة العبرية فى الرياضيات والفيزياء والكمياء والجيولوجيا وصرفت عائلة ليوروزنتال الأموال الضخمة عليها.وفى عام 1894 أسست لجنة للتعليم الشعبى تؤكد على المناهج العبرية وتدريب معلمى العبرية، وانضم إليها أحاد هعام وبياليك وهما من زعماء الصهيونية القومية . وكان الهدف من هذه الجمعيات اعتبار أن اليهود شعب عضوى لا يذاب فى الأمم الأخرى وحتى فى الحركات اليهودية التى تدعى أنها تنتمى إلى تيار التنوير أو الاستنارة الذى كان يحاول الاندماج فى المجتمع والانصهار داخل المجتمعات التى يعيشون فيها، ومقاومة مفهوم عدم الإذابة، فإنها لم تستبعد اللغة اليديشية كأداة للتعبير عن نفسها كما أنها تبنت المفهوم ذاته بأن اليهود شعب عضوى لا يذاب فى الأمم الآخرى، حينما يتعلق الأمر بالاستيلاء على فلسطين وطرد شعبها وإحلال الشعب اليهودى بديلاً عنه، لأنه لا يمكن أن يتعايشا معاً من منطلق عدم الإذابة ورأى إبراهام كوك الروسى اليهودى أول حاخام أكبر لليهود الإشكناز فى فلسطين أن اليهودية فى الشتات لا وجود لها، وأن اليهودية دين قومى وقومية دينية، وأن أرض إسرائيل جزء من جوهر الوجود القومى اليهودى ، وتحول دعاة التنويرـ الهسكلاه ـ إلى دعاة للعقيدة الصهيونية القائمة على الاستعمار والاستيطان والإحلال وأن الشعب اليهودى لا يذاب فى الشعوب الأخرى وأن أرض إسرائيل هى التى تحقق للشعب وجوده القومى.واليهود بهذا المنطق ساكنين مؤقتين فى روسيا وهم الغرباء بالتفكير والممارسة .وفى المؤتمرات الصهيونية كان للروس تأثيراً فعالاً قوياً ،فى المؤتمر الأول عام 1897 ووصل عدد المندوبين الروس إلى ما يقرب من ثلث أعضاء المؤتمر فمن بين 197 مندوباً كان للروس 66 مندوبا وكان من بينهم القادة الصهيونيين الكبار وأصبحوا فى المؤتمر الثانى قوة حقيقية بقيادة ناحيل تشيليتوف وحاييم وايزمان وناحوم سولكوف وشاحاريايفين وموتزكين وكان الروس المتشددون فى المطالبة باستطان فلسطين برئاسة وايزمان وموتزكين وعقدوا المؤتمر الصهيونى الأول ليهود روسيا عام 1902 فى مدينة منسك رداً على اية محاولة تحاول إعاقة هذا الهدف .وكان لارتباط اليهود بالحركات الثورية العلمانية اليمينية واليسارية، وحيث كان اليهود رمزاً واضحاً للمجتمع الصناعى الرأسمالى الجديد وبالتالى أصبحوا هدفاً للجماهير التى اقتلعها الاقتصاد الجديد وألقى بها فى المدن والمصانع للعمل تحت ظروف غير إنسانية ومن ثم أصبح اليهودى بالنسبة إلى البرجوازيات الصغيرة الضعيفة، هو العائق الأساسى الذى يقف حجرة عثرة فى طريق نموها الاقتصادى لأنه غريم قوى، كما أن الجميع يرون فى اليهودى يسارياً ثورياً يهدد المجتمع من أساسه، ولانضمام عدد كبير من أعضاء الجماعات اليهودية للأحزاب الشيوعية الحاكمة فى روسيا وشرق أوربا واشتركوا فى عمليات قمع المعارضة التى قامت ضد الأحزاب الشيوعية الحاكمة فارتبط أعضاء الجماعات اليهودية فى الذهن الشعبى بهذه النظم ، ورغم عدم وجود يهود فى كثير من بلاد أوربا الشرقية إلا ان العداء لليهود لا يزال مستمراً بسبب العداء الراسخ للشيوعية .وقد كان اليهود ــ بالفعل ــ متواجدين فى صفوف الثوريين كتروتسكى، والرأسماليين كجونزبرج والرجعيين كستاهل والمسيحيين كشستوف كما كان لهم وجود ملحوظ فى كل قطاعات المجتمع العالمانى الجديد واستمر وجود اليهودى فى الحركات الإرهابية على مستوى القيادات الجماهيرية وأصبح لهم وجوداً ملحوظاً لا شك فيه مع البلاشفة الروس مثل زينوفييف وكامينيف ولينفينوف من أعضاء الجماعات اليهودية، وعلى رأس كل هؤلاء تروتسكى مهندس الثورة البلشيفية وقائد جيشها الأحمر وكان حٍزب البوند الروسى البولندى اليهودى هو أكبر حزب إرهابى اشتراكى فى العالم عند تأسيسه وكان الشباب اليهودى ينخرط فى هذا السلك بدرجات متزايده فقد كان 30% من المقبوض عليهم فى جرائم سياسية عام 1900 فى روسيا من أعضاء الجماعات اليهودية، واستفادت الصهيونية من هذه الظاهرة وكان هيرتزل بطلها فى المفاوضات منادياً بأن الحل الصهيونى هو الطريق الوحيد لتحويل الشباب اليهودى عن هذا الطريق .وقد اشترك اليهود على الرغم من وضعهم المميز أثناء فترة الحكم القيصرى فى النشاطات الإرهابية وقد انضم كثير من أعضاء الجماعات اليهودية من المثقفين إلى الحركة الشعبوية الروسية التى ظهرت فى الستينات من القرن التاسع عشر واشتد نشاطها خلال فترة السبعينات من هذا القرن ووصلت ذروة نشاطها الأرهابى حين قام الجناح المسلح فى الحركة باغتيال إلكسندر الثانى قيصر روسيا عام 1881 ولعب الشعبيون الروس دوراً نشطياً فى تأسيس الحركات الثورية وتوزيع المنشورات والمطبوعات السرية وتنفيذ العمليات الارهابية والاغتيال وكان من بينهم أعيرون جوبيت الذى أعدم عام 1879 بتهمة محاولة اغتيال إلكسندر الثانى .وقد لعبت القيادات اليهودية دوراً هاماً فى الثورة البلشفية وفى حسم الصراع على السلطة بداخلها، فتحالف كامينيف وزينوفييف اليهوديان مع ستالين ضد اليهودى تروتسكى حتى نجح ستالين فى إقصاء تروتسكى ونفية رغم أنه كان ثانى شخصية فى الحزب ثم تحالفا معاً ضد ستالين الذى نجح فى نهاية الأمر فى القبض عليهما بتهمة التأمر ضد الثورة ومحاولة الاستيلاء عليها وتم إعدامهما واستطاعت الجماعات اليهودية بعد الثورة البلشفية أن تجعل الحكومة السوفيتية تتبنى وجهات النظر الصهيونية وفى عام 1943 زار إيفان مايكس نائب وزير الخارجية السوفيتى فلسطين وقام بمتابعة الكيبوتسات ومناقشة مشاكل الاستيطان مع بن جورين وجولدا مائير ولم يتصل بالجانب العربى قط وصرح أن اليهود الاشتراكيين والتقدميين فى فلسطين سيكونون أكثر فائدة لنا من العرب المتخلفين الذين تسيطر عليهم مجموعات إقطاعية من الباشوات والأفندية.وبعد إندلاع ثورة فبراير 1917 عقد أكبر المؤتمرات الصهيونية أنذاك ودعى فيه إلى إنشاء جيش من اليهود الروس لاحتلال فلسطين عن طريق القوقاز وتم فى هذا المؤيمر قيام اليهود الروس بتأييد أفكار جابوتنسكى حول التعاون مع بريطانيا من أجل تشكيل الفيلق اليهودى، ثم أقاموا فى ربيع 1918 إسبوعاً لفلسطين ترغيباً فى الاستيلاء عليها .وقد حاولت الحكومة البلشفية فى روسيا الشيوعية أن توفر موطناً خاصة لإقامة الجالية اليهودية بين تخومها وأصدر مجلس السوفيت الأعلى فى 28 مايو 1923 قراراً بإنشاء دولة يهودية مستقلة على الحدود المنغولية داخل اتحاد الجمهوريات السوفتية أطلق عليها اسم بيروبيجان غير أن اليهود لم يرضوا بهذا القرار بل أهملوه حتى سقط واندثر وتزعم مقاطعته لفيف من أقطاب اليهود على رأسهم وايزمان و بن جوريون وموسى شاريت وجولدا مائير من زعماء رابطة بوند للعمال اليهود الروس والمناهضة للحركة العمالية الروسية .وفى إطار ذلك ذهب البعض إلى أن الثورة البلشفية هى ثورة يهودية وإحدى تطبيقات بروتوكولات حكماء صهيون حيث أن ماركس ولينيين يهود وإلى وجود عدد كثير من الكوادر والقيادات السياسية فى صفوفها. وأن اليهود قرروا الانتقام بتدمير المسيحية فى روسيا لأنها الركن الركين للمسيحية، وكذلك الانتقام من الشعب الروسى فكانت ثورة 1917 وكان عتاة الإرهاب اليهودى تخطيطاً وعملاً وتمويلاً وحتى ستالين كان متزوجاً من يهودية، وكان الممولين للثورة البلشفية من اليهود أمثال ماكس راوبرج وشقيقه بول وهما من الشركة الأمريكية اليهودية فى ستبورج وكراسن وفيروزنبرج وفى ذلك كتب الإسرائيلى كوهين: يمكن القول بلا مبالغة أن الثورة الروسية الكبرى كانت من عمل اليهود وأن هؤلاء اليهود لم يقوموا بهذا العمل فحسب، وإنما تولوا رعاية المذهب السوفيتى ويمكننا أن نطمئن نحن اليهود ما دامت إرادة الجيش الأحمر العليا فى يد ليون تروتسكى .وتقلد اليهود فى عهد البلاشفة أرفع مناصب الدولة فى الحكومة الروسية الحمراء فكان باكوف سوقورديلوف صديق لينين الحميم أول رئيس للجمهورية الروسية كما تبوأ ديمشنس منصب رئيس الوزراء فى الاتحاد السوفيتى ورئيس اللجنة الإدارية الحكومية لشئون المواد الخام والتجهيز التكنيكى وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعى، وتولى سيمون جيتسبرج رئاسة بنك التعمير والانشاءات فى الاتحاد السوفيتى وأصبح الليفتنات جنرال دافيد دارجنسكى اليهودى قائداً لسلاح الدبابات رئيساً لأكاديمية المهندسين فى الجيش السوفيتى . وقد نشرت مجلة جويش ابينيون الأمريكية مقالاً فى ديسمبر 1933 بتوقيع دابى ستيفن دايز نوهت فيه بما حصل عليه اليهود فى روسيا بعد قيام البلشفية من حقوق وحريات لم يظفر بمثلها اليهود فى أيه دولة وقد تأكدت هذه الحقوق والحريات بحماية قانونية صارمة واعتبرت معاداة السامية جريمة وطنية معادية للثورة البلشفية ذاتها ، كما أشارت تلك المجلة إلى أن اليهود كانت فى أيديهم مقاليد الحكم الفعلى فى روسيا كفاء ما أبلوا فى إنجاح الثورة البلشفية إذا بلغت نسبة ما دان لهم من المناصب الرفيعة 61% فكان منهم رئيس البنك المركزى وقائد الجيش فى أوكرانيا وأساتذة الجامعات والقواد ورجال القضاء، كما أتخذ إليكس كوسيجن رئيس مجلس الوزراء السوفيتى سكرتيرة يهودية له ، وكان للامتزاج اليهودى الشيوعى منذ اندلاع الثورة البلشفية أثره على الصحافة اليهودية المعاصرة للثورة البلشفية فى روسيا فلطالما أشادت بالأواصر الوثيقة التى تربط بين المبادئ البلشفية والمبادئ الصهيونية وبما كان لكل منهما تأثير عميق متبادل . وقد نوهمت مجلة جويش كرونيكل فى عددها الصادر فى 4 أبريل 1919 بفضل اليهود على الثورة البلشفية واعتمادها أساساً على المبادئ الصهيونية العليا وعلى جهود طائفة غير يسيره من قادتها الصهيونيين . كما أكدت ذلك مجلة أمريكان هيبرو فى عددها الصادر فى نيويورك بتاريخ 10 سبتمبر 1920 حيث صرحت بأن الثورة البلشفية وليدة الفكر اليهودى .ورغم كل هذا الوضع المميز فلم يرحم اليهود هذا البلد فبعد استتباب الثورة البلشفية لوحظ فى الستينات أن حوالى 50 % من الجرائم المالية ارتكبها أعضاء الجماعات اليهودية فى الاتحاد السوفيتى والذين كانت نسبتهم لا تزيد عن 2% من عدد السكان.وفى الحرب العالمية الثانية كان القادة الصهاينة يقومون جيداً بدور الوسيط وفى نيسان 1944 اقترح إيخمان على المفوض الصهيونى برانت مبادلة مليون يهودى بعشرة آلاف قافلة ( كميون ) تستخدم حصراً فى الجبهة الروسية ودعم بن جورين وشاريت هذا هذا العرض بل أنهما أرسلا شخصياً لروزفلت حتى لا يسمح بإهمال هذه الفرصة الوحيدة لإنقاذ يهود أوربا وكانت الغاية واضحة مبادلة يهود مقابل تجهيزات استراتيجية، أو حتى إقامة اتصالات دبلوماسية مع الغرب وهى اتصالات لا يمكن أن تؤدى إلى صلح منفصل بل ـ وكان هذا هو الأمل ـ إلى حرب يشترك فيها الألمان والغربيون ضد السوفيت . تلك هى الغاية التى كان النازى هملر يريد تحقيقها وقبل القادة الصهاينة أن يقوموا بهذه الوساطة .ويتسائل جارودى ـ فى هذا الموضوع ـ ما الذى عسانا ان نقوله فى هؤلاء الذين عرضوا على هتلر بحكم أنانيتهم الجماعية معدات إستراتيجية قرينة بالوعد أنها لن تستخدم إلا على الجبهة الروسية.وهذه المواقف الانتهازية عرفها الثوريون الروس من قبل ففى عشية ثورة 1905 وصلت مجموعة من المهاجرين اليهود وبدلاً من أن يتابع الصهاينة النضال فى مكانهم ذاته إلى جانب الثوريين الروس فر الهاربون فى الثورة المغلوبة إلى فلسطين وحملوا إليها اشتراكية صهيونية غربية وخلقوا بها تعاونيات للعمال المحترفين وكيبوتسات ريفية قضت على الفلاحين الفلسطينيين .وحيث كان القانون السوفيتى يعطى أعضاء الجماعات اليهودية الحق فى أن يصنفوا أنفسهم كما يشاءون فكان بوسع اليهودى من أوكرانيا أن يصنف نفسه يهودياً أو أوكرانيا وهذا يعنى أن عدداً كبير من المواطنين السوفيت كانوا من أصل يهودى ولكنهم لم يصنفوا يهوداً وقد أدى هذا على ظهور ما يسمى باليهود المتخفين وهم المواطنين السوفيت من أصل يهودى الذين يخفون أصولهم اليهودية .وحينما فتحت أبواب الهجرة إلى إسرائيل بما كانت تتيحه من فرص للحراك الاجتماعي والطبقى ومكافأه مادية مباشرة ومع تزايد تفكيك النظام السوفيتى، أظهر كثير من هؤلاء اليهود المتخفين أصولهم اليهودية كما أن أعداد كبيرة من غير اليهود ممن لهم أصول يهودية قديمة للغاية ( جـد مدفون فى موسكو، على حد قول أحد الحاخامات ) أو حتى ممن ليس لهم أصول يهودية على الإطلاق، أدعو أنهم يهود حتى يستفيدوا من الفرص الاقتصادية المتاحة . وأخيرا ـ وليس بأخر ـ كما قال ديستو يفسكى حول مجمل تاريخ اليهود روسيا : إن تاريخ أنحاء روسيا يشهد بما جرى للشعب الروسى خلال عشرات ومئات السنين حيثما حل اليهود . وماذا بعد ، هل بوسعكم أنم تتذكروا أية قبيلة أخرى من القبائل الغريبة فى روسيا يمكن أن تتساوى بهذا المفهوم فى نفوذها مع النفوذ الفظيع لليهود ؟ لن تجدوها، فاليهود يتفردون بشذوذهم وأصالتهم فى هذا المجال أمام جميع القوميات الروسية ، والسبب يعود بالطبع إلى الجيتو ، وإلى روحه التى تبث فيهم عدم الرحمة تجاه كل ماهو غير يهودى، وعدم احترام أى شعب أو قومية ، أو أى جوهر إنسانى آخر ما لم يكن يهوديا.
المراجع :1ـ
غواية إسرائيل ، أشرف الصباغ ، غواية إسرائيل المسألة اليهودية لـ ديستويفسكى ، أشرف الصباغ ، جماعة حور، القاهرة .
2 ـ موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ، عبد الوهاب المسيرى .
3 ـ المسألة اليهودية ، كارل ماركس ، مكتبة الجيل .
4 ـ اليهودى العالمى ، هنرى فورد .
5 ـ الأساطير المؤسسة للسياسية الإ سرائيلية ، روجيه جارودى ، ترجمة : حافظ الجمالى وصياح الجهيم ،دار عطية للنشر ، بيروت ، الطبعة الثالثة 1997 .
http://misralhura.wordpress.com/2009/04/05/ahmed-s/

جورجيا تطلق الجن الأمريكي في القوقاز

الأهرام العربي كانت وسط النيران
جورجيا تطلق الجــن الأمريكي في القوقاز
السبت 16 / 8 / 2008
تبليسي‏:‏ د‏.‏ أشرف الصباغ
تحاول وسائل الإعلام الغربية تصوير الحرب الدائرة بين جورجيا وجمهورية أوسيتيا الجنوبية ـ غير المعترف بها ـ علي أنها حرب بين روسيا وجورجيا‏.‏ غير أن جميع المشاهدات الميدانية‏(‏ منذ وصول كاتب هذه الكلمات إلي الحدود الفاصلة بين جورجيا وأوسيتيا في صباح الثامن من أغسطس وحتي هروبه من جورجيا إلي أرمينيا عبر الجبال ليلة العاشر من أغسطس‏)‏ تؤكد أن جورجيا بدأت حرب خطط‏,‏ ومازال يخطط‏,‏ لها حوالي‏200‏ خبير عسكري أمريكي يتواجدون في العاصمة الجورجية تبليسي‏.‏في صباح الثامن من أغسطس توجهت أكثر من‏50‏ دبابة و‏20‏ ناقلة جنود إلي الحدود الجورجية الأوسيتية الجنوبية‏.‏ تمركزت هذه القوات علي معابر الحدود وبدأت التوغل في الأراضي الأوسيتية بمساعدة المدفعية الثقيلة ومنظومات جراد والمروحيات العسكرية‏.‏ خلال اليوم الأول للحرب قامت القوات الجورجية النظامية بالهجوم علي موقعين لقوات حفظ السلام الروسية‏,‏ ما أسفر عن مقتل العشرات وإصابة أكثر من مائة آخرين‏.‏ وتم إطلاق النار من مسافات قصيرة علي الجرحي‏.‏ في هذه الأثناء كان اجتياح العاصمة الأوسيتية الجنوبية تسخينفالي يجري تحت قصف المدفعية الجورجية المتمركزة علي الجبال المحيطة بأوسيتيا‏.‏ تم تدمير المستشفي المركزي في تسخينفالي‏,‏ ووزارة الداخلية‏,‏ والقضاء علي البنية التحية بشكل شبه كامل‏.‏ وقتل خلال اليوم الأول فقط حوالي‏1400‏ من المدنيين‏,‏ تشرد أكثر من‏15‏ ألف شخص‏.‏ في منتصف ذلك اليوم أعلن الرئيس الجورجي ميخائيل سآكاشفيلي وقف إطلاق النار لمدة‏3‏ ساعات فقط لفتح ممرات أمام المدنيين الراغبين في مغادرة تسخينفالي إلي جورجيا‏.‏ وقبل ساعة ونصف الساعة من انتهاء المدة بدأت القوات الجورجية قصف العاصمة الأوسيتية‏.‏ وفي النصف الثاني بدأت المقاتلات الروسية من طراز‏(‏ سوخوي‏-25)‏ تحلق فوق الجبال الحدودية وتقصف مواقع المدفعية الجورجية‏.‏ بينما حرب الشوارع في تسخينفالي تدور بين القوات الجورجية وقوات حفظ السلام والقوات الأوسيتية الجنوبية‏.‏ وعلمنا أن الجيش الروسي الثامن والخمسين بدأ يشارك في المعارك ضد القوات الجورجية‏.‏مساء الثامن من أغسطس توجهنا إلي مدينة‏(‏ جوري‏)‏ الجورجية التي تبعد عن الحدود مع أوسيتيا الجنوبية بحوالي‏30‏ كم‏.‏ كانت المدينة مطفأة تماما‏,‏ والشوارع خالية إلا من بعض النساء والرجال العجائز الذين يجلسون علي الأرصفة ويتحدثون حول‏'‏ احتلال روسي متوقع للمدينة بعد قصفها بالطيران‏'.‏ خلال الليل لاحظنا تحرك الدبابات في تلك المدينة‏.‏ وفي الصباح رأينا مئات الجنود المتوقعين في الحدائق العامة والمسارح ودور السينما والفنادق‏,‏ إضافة إلي عشرات من العربات المصفحة‏.‏في صباح التاسع من أغسطس‏(‏ اليوم الثاني للحرب‏)‏ توجهنا مباشرة إلي الحدود الجورجية الأوسيتية الجنوبية‏.‏ كانت مخافر الحدود مدمرة تماما‏.‏ وفجأة قامت المروحيات الجورجية بعدة هجمات علي العاصمة تسخينفالي التي كانت تحترق في هذه الأثناء‏.‏ واستمرت الاشتباكات داخل المدينة‏.‏ وعلمنا أن مجموعة من القوات الخاصة الروسية وصلت إلي تسخينفالي وبدأت تشارك في العمليات‏.‏في هذه الأثناء كانت وسائل الإعلام الجورجية والغربية تروج لشائعات تدور حول قيام الطائرات الحربية الروسية بقصف مدينة‏(‏ جوري‏)‏ وضواحي العاصمة تبليسي‏.‏ غير أن ما كنا نشاهده بأعيننا يدحض تماما هذه الشائعات‏,‏ إذ إن المقاتلات الروسية كانت تضرب الأهداف العسكرية وبالذات المطارات العسكرية الموجودة في ضواحي مدينة‏(‏ جوري‏)‏ ومواقع المدفعية الجورجية علي الجبال‏.‏بدأت خلال هذا اليوم حرب إعلامية ساخنة‏.‏ أعلنت موسكو أن القوات الخاصة الروسية وقوات حفظ السلام والجيش الثامن والخمسين تمكنت من تحرير المدينة‏.‏ أما تبليسي فظلت تؤكد أن العاصمة الأوسيتية الجنوبية تحت سيطرة قواتها‏.‏ وفي الساعة الثانية بعد الظهر بتوقيت موسكو‏,‏ أثناء وجودنا علي المعابر الحدودية وعلي بعد عدة كيلومترات من تسخينفالي‏,‏ فوجئنا بعشرات الدبابات وناقلات الجنود الجورجية تأتي من داخل جورجيا في اتجاه الحدود‏.‏ وقفت هذه القوات عدة دقائق في المنطقة الحدودية‏(‏ كنا في هذه اللحظات محاصرين داخل طوق الدبابات والجنود‏,‏ وسمحوا لنا بالتصوير‏).‏ بعد دقائق توجهت القوات الجورجية نحو أراضي أوسيتيا الجنوبية من جديد‏.‏ وبدأنا نسمع صوت طلقات الدبابات والمدفعية‏.‏ وأعمدة النار والدخان تتصاعد من جديد في تسخينفالي‏.‏ عرفنا أن جمهورية أبخازيا ـ غير المعترف بها ـ فتحت جبهة ثانية ضد جورجيا‏.‏ وأن هناك معارك ساخنة في وادي كودوري‏.‏ سمعنا أيضا أنباء متناقضة‏.‏ فتارة تؤكد تبليسي أن قواتها تسيطر علي وادي كودوري‏,‏ وقريبا ستدخل العاصمة سوخومي‏,‏ وتارة أخري تؤكد القيادة البخازية أنها تلقن القوات الجورجية درسا لن ينسي في وادي كودوري‏.‏ المعروف أن أكثر من‏95%‏ من سكان أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا يحملون الجنسية الروسية‏.‏ هؤلاء السكان يعيشون وفقا لنمط الحياة الروسي‏.‏ هناك أيضا أوسيتيا الشمالية التي تدخل في نطاق روسيا الاتحادية‏.‏ أي أن أوسيتيا الشمالية والجنوبية يسكنهما شعب واحد كل مواطنيه يحملون الجنسية الروسية‏,‏ ولكن الشمالية تابعة لروسيا والجنوبية أعلنت استقلالها من طرف واحد عن جورجيا‏.‏ أبخازيا أيضا أعلنت استقلالها من طرف واحد عن جورجيا‏.‏ ومع ذلك لم تعترف روسيا بهذا الاستقلال وتدعو جميع الأطراف المتنازعة إلي التفاوض‏.‏ غير أن قادة الجمهوريتين مصممون علي الاستقلال بصرف النظر عن الانضمام إلي روسيا من عدمه‏.‏ الجمهوريتان ضد انضمام جورجيا إلي حلف الناتو‏.‏ وفي حال الانضمام فإن روسيا ستفقد منفذها علي البحر الأسود‏.‏ وكما نعرف فقد نفذت روسيا وعودها حسب اتفاقية اسطنبول وأخرجت جميع قواتها ومعداتها من القواعد العسكرية الروسية‏.‏قرب المساء عدنا إلي مدينة‏(‏ جوري‏)‏ سيرا علي الأقدام‏.‏ تجولنا في المدينة المظلمة التي تكاد تكون خالية تماما من السكان‏.‏ توجهنا إلي أحد الفنادق المليء بالجنود الجورجيين‏.‏ وقبل أن نبدل ملابسنا اقتحم عدد ضخم‏(‏ يصل إلي‏15‏ شخصا‏)‏ من أفراد الاستخبارات العسكرية الجورجية‏,‏ وبدأت الاحتكاكات والاتهامات بالتجسس‏.‏ ووزعوا أفراد مجموعتنا الخمسة في غرف منفصلة واستمرت التحقيقات حوالي‏5‏ ساعات صادروا خلالها أوراقنا الشخصية والهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر والتصوير‏.‏ وفي الساعة الواحدة من صباح‏10‏ أغسطس طردوا المجموعة من الفندق‏.‏ وأمرونا بمغادرة مدينة‏(‏ جوري‏)‏ فورا‏.‏ كان من الصعب العثور علي سيارة‏..‏ كان أمرا مستحيلا في مدينة تحولت إلي ثكنة عسكرية‏.‏ استدعي قائد مجموعة الاستخبارات سيارة وأمر السائق بالتوجه إلي العاصمة تبليسي‏.‏ ووصلنا قرب الساعة الخامسة من فجر يوم‏10‏ أغسطس‏.‏سادت العاصمة تبليسي حالة من التوجس والترقب والخوف‏.‏ كل ما كان يسيطر علي الناس هو هاجس وصول القوات الروسية في أية لحظة لاحتلال العاصمة‏.‏ أدركنا مدي خطورة الآلة الإعلامية التي يستخدمها النظام السياسي في جورجيا‏.‏ بل وأدركنا أيضا أن هناك دعما إعلاميا غربيا غير محدود‏.‏ في ذلك اليوم تجولنا في شوارع العاصمة‏.‏ رأينا الناس منقسمين بالنسبة لرأيهم فيما يجري‏,‏ وبالنسبة لسآكاشفيلي‏.‏ فهناك شباب يسيرون بالسيارات رافعين الأعلام الجورجية منددين بروسيا وممارساتها‏.‏ وهناك أمهات يتجمهرن أمام مبني البرلمان ينتقدون سآكاشفيلي وممارساته التي ستجلب النقمة علي البلاد‏.‏ هؤلاء الأمهات كانوا خارج نطاق التغطية الإعلامية الجورجية والغربية‏.‏ لقد أعلن سآكاشفيلي الأحكام العرفية في البلاد لمدة أسبوعين بسبب رفض الشباب التجنيد الإجباري للذهاب إلي الحرب في أوسيتيا الجنوبية‏.‏ لاحظنا هجوما شديدا ضد الولايات المتحدة‏.‏ إذ يؤكد الجورجيون البسطاء أن واشنطن وراء كل ما يجري‏,‏ وأن سآكاشفيلي مجرد لعبة‏,‏ وينفذ مخططا أمريكيا وأورو‏-‏أطلسيا‏.‏ ظللنا نتجول في الشوارع حتي الساعة السابعة مساء‏.‏ استمعنا إلي الناس‏,‏ وناقشناهم‏.‏ وشاهدنا جلسة مجلس الأمن‏,‏ في التلفزيون‏,‏ التي دار فيها النقاش بين المندوبين الدائمين لروسيا والولايات المتحدة‏.‏ وشاهدنا المحطات التلفزيونية الغربية‏,‏ واطلعنا علي الوكالات‏.‏ أصابتنا الدهشة لكل ما يبث ويكتب‏.‏ شعرنا بأن كل هؤلاء يشاركون في‏(‏ شو‏)‏ إعلامي مختلق من بدايته إلي نهايته‏.‏ فتركيز القنوات الغربية علي أن الحرب بين روسيا وجورجيا‏,‏ جعلنا ندرك أن الأمر مخطط له منذ فترة‏,‏ وهناك تصميم علي توريط روسيا في أمر لا علاقة لها به‏.‏الغريب في الأمر أن القيادة الأوكرانية أدلت بجملة خطيرة من التصريحات‏.‏ فبمجرد دخول أبخازيا الحرب إلي جانب أوسيتيا الجنوبية‏,‏ قامت روسيا بإرسال مجموعة من سفنها الحربية التابعة لأسطول البحر الأسود الروسي المتمركز في ميناء سفاستوبل بشبه جزيرة القرم في أوكرانيا‏.‏ وأعلنت كييف أنها لن تسمح بعودة هذه السفن مرة أخري إلي الأسطول الروسي‏.‏ غير أن التصريح بدا مثيرا للابتسام لأن أوكرانيا لا تملك الحق في ذلك‏.‏ ولكنها أرادت الإعراب عن الدعم وحسن النية تجاه القيادة الجورجية الصديقة‏,‏ إضافة إلي التلميح لواشنطن فبما إذا كان هناك دور أوكراني مطلوب‏.‏قبل بدء الحرب بأيام قليلة تفجرت فضيحة التسليح السري الذي تقوم به إسرائيل للجيش الجورجي‏.‏ كان معروفا أن تل أبيب تزود تبليسي بطائرات التجسس بدون طيارين‏.‏ ولكن اتضح أن الأمور أكبر وأوسع وأعمق بين البلدين الصديقين‏.‏ روسيا أعربت عن امتعاضها من ممارسات إسرائيل‏,‏ ما دفع القيادة الإسرائيلية إلي إلغاء بعض الصفقات مع تبليسي‏.‏ تفجرت أيضا فضيحة تزويد أوكرانيا جورجيا بالأسلحة‏,‏ وبمنظومات صواريخ حديثة‏.‏ هنا ننتقل إلي اللعبة الجورجية‏-‏الأوكرانية بشأن معاداة روسيا‏,‏ وتقديم كل فروض الولاء والطاعة للولايات المتحدة من أجل الانضمام إلي حلف الناتو والاتحاد الأوروبي‏.‏ إن آخر مدينة روسية علي الحدود بين روسيا وأوكرانيا‏(‏ بلجرد‏)‏ تبعد عن موسكو بحوالي‏750‏ كم‏.‏ أي أن جنود الناتو سيكونون علي بعد‏750‏ كم من الكرملين‏.‏ أما الحدود الجورجية المحاذية لروسيا من ناحية الشيشان فتبعد حوالي‏1200‏ كم فقط‏.‏ معني ذلك أن قوات الناتو في حال انضمام جورجيا وأوكرانيا إليه ستضرب طوقا حول روسيا‏.‏بعيدا عن التحليلات السياسية‏.‏ تمكنا من العثور علي سيارة في الساعة الثامنة من مساء يوم‏10‏ أغسطس‏.‏ نقلنا السائق إلي الحدود مع أرمينيا‏.‏ وأثناء الدخول علمنا أن جميع أفراد طاقم السفارة الأمريكية في تبليسي غادروها‏.‏ وعلمنا أيضا أنهم مروا قبلنا بعدة ساعات‏.‏ تأكدت هذه الأنباء عندما وصلنا إلي العاصمة الأرمينية يريفان حوالي الساعة الخامسة من صباح يوم‏11‏ أغسطس‏.‏ وفي يوم‏12‏ تمكنا من الحصول علي بطاقات إلي موسكو‏.‏ لقد ضربت السلطات الجورجية حصارا إعلاميا علي الجورجيين حتي من قبل بداية الحرب مع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا‏.‏ أغلقت جميع مواقع النت الروسية أو التي لها علاقة بروسيا‏.‏ منعت القنوات التليفزيونية والصحف الروسية‏.‏ وأصبح الإعلام الحكومي هو المنفذ الوحيد للحصول علي أي معلومات‏.‏من جهة أخري يحاول الرئيس الجورجي ميخائيل سآكاشفيلي تقديم كل ما يمكن تقديمه لمرشح الرئاسة الأمريكي‏(‏ الجمهوري‏)‏ جون ماكين‏.‏ إذ إن الجمهوريين يريدون اختراع أي حرب مع روسيا لإقناع الناخب الأمريكي بأنهم الأقدر علي إدارة المعارك مع هؤلاء الروس‏.‏ وإذا فشل جون ماكين في دخول البيت الأبيض‏,‏ فهو لا يريد أن يفقد الكونجرس ويعطيه للديمقراطيين‏.‏ سآكاشفيلي لا يريد مجيء الديمقراطيين الذين قد يوجهون إليه انتقادات بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان‏,‏ ويحرمونه من مساعدات تصل إلي‏375‏ مليون دولار سنويا‏.‏ هذا في الوقت الذي تقدم إليه روسيا‏2‏ مليار دولار سنويا عن طريق مليون جورجي يعملون علي أراضيها‏*‏