الأهرام العربي كانت وسط النيران
جورجيا تطلق الجــن الأمريكي في القوقاز
السبت 16 / 8 / 2008
السبت 16 / 8 / 2008
تبليسي: د. أشرف الصباغ
تحاول وسائل الإعلام الغربية تصوير الحرب الدائرة بين جورجيا وجمهورية أوسيتيا الجنوبية ـ غير المعترف بها ـ علي أنها حرب بين روسيا وجورجيا. غير أن جميع المشاهدات الميدانية( منذ وصول كاتب هذه الكلمات إلي الحدود الفاصلة بين جورجيا وأوسيتيا في صباح الثامن من أغسطس وحتي هروبه من جورجيا إلي أرمينيا عبر الجبال ليلة العاشر من أغسطس) تؤكد أن جورجيا بدأت حرب خطط, ومازال يخطط, لها حوالي200 خبير عسكري أمريكي يتواجدون في العاصمة الجورجية تبليسي.في صباح الثامن من أغسطس توجهت أكثر من50 دبابة و20 ناقلة جنود إلي الحدود الجورجية الأوسيتية الجنوبية. تمركزت هذه القوات علي معابر الحدود وبدأت التوغل في الأراضي الأوسيتية بمساعدة المدفعية الثقيلة ومنظومات جراد والمروحيات العسكرية. خلال اليوم الأول للحرب قامت القوات الجورجية النظامية بالهجوم علي موقعين لقوات حفظ السلام الروسية, ما أسفر عن مقتل العشرات وإصابة أكثر من مائة آخرين. وتم إطلاق النار من مسافات قصيرة علي الجرحي. في هذه الأثناء كان اجتياح العاصمة الأوسيتية الجنوبية تسخينفالي يجري تحت قصف المدفعية الجورجية المتمركزة علي الجبال المحيطة بأوسيتيا. تم تدمير المستشفي المركزي في تسخينفالي, ووزارة الداخلية, والقضاء علي البنية التحية بشكل شبه كامل. وقتل خلال اليوم الأول فقط حوالي1400 من المدنيين, تشرد أكثر من15 ألف شخص. في منتصف ذلك اليوم أعلن الرئيس الجورجي ميخائيل سآكاشفيلي وقف إطلاق النار لمدة3 ساعات فقط لفتح ممرات أمام المدنيين الراغبين في مغادرة تسخينفالي إلي جورجيا. وقبل ساعة ونصف الساعة من انتهاء المدة بدأت القوات الجورجية قصف العاصمة الأوسيتية. وفي النصف الثاني بدأت المقاتلات الروسية من طراز( سوخوي-25) تحلق فوق الجبال الحدودية وتقصف مواقع المدفعية الجورجية. بينما حرب الشوارع في تسخينفالي تدور بين القوات الجورجية وقوات حفظ السلام والقوات الأوسيتية الجنوبية. وعلمنا أن الجيش الروسي الثامن والخمسين بدأ يشارك في المعارك ضد القوات الجورجية.مساء الثامن من أغسطس توجهنا إلي مدينة( جوري) الجورجية التي تبعد عن الحدود مع أوسيتيا الجنوبية بحوالي30 كم. كانت المدينة مطفأة تماما, والشوارع خالية إلا من بعض النساء والرجال العجائز الذين يجلسون علي الأرصفة ويتحدثون حول' احتلال روسي متوقع للمدينة بعد قصفها بالطيران'. خلال الليل لاحظنا تحرك الدبابات في تلك المدينة. وفي الصباح رأينا مئات الجنود المتوقعين في الحدائق العامة والمسارح ودور السينما والفنادق, إضافة إلي عشرات من العربات المصفحة.في صباح التاسع من أغسطس( اليوم الثاني للحرب) توجهنا مباشرة إلي الحدود الجورجية الأوسيتية الجنوبية. كانت مخافر الحدود مدمرة تماما. وفجأة قامت المروحيات الجورجية بعدة هجمات علي العاصمة تسخينفالي التي كانت تحترق في هذه الأثناء. واستمرت الاشتباكات داخل المدينة. وعلمنا أن مجموعة من القوات الخاصة الروسية وصلت إلي تسخينفالي وبدأت تشارك في العمليات.في هذه الأثناء كانت وسائل الإعلام الجورجية والغربية تروج لشائعات تدور حول قيام الطائرات الحربية الروسية بقصف مدينة( جوري) وضواحي العاصمة تبليسي. غير أن ما كنا نشاهده بأعيننا يدحض تماما هذه الشائعات, إذ إن المقاتلات الروسية كانت تضرب الأهداف العسكرية وبالذات المطارات العسكرية الموجودة في ضواحي مدينة( جوري) ومواقع المدفعية الجورجية علي الجبال.بدأت خلال هذا اليوم حرب إعلامية ساخنة. أعلنت موسكو أن القوات الخاصة الروسية وقوات حفظ السلام والجيش الثامن والخمسين تمكنت من تحرير المدينة. أما تبليسي فظلت تؤكد أن العاصمة الأوسيتية الجنوبية تحت سيطرة قواتها. وفي الساعة الثانية بعد الظهر بتوقيت موسكو, أثناء وجودنا علي المعابر الحدودية وعلي بعد عدة كيلومترات من تسخينفالي, فوجئنا بعشرات الدبابات وناقلات الجنود الجورجية تأتي من داخل جورجيا في اتجاه الحدود. وقفت هذه القوات عدة دقائق في المنطقة الحدودية( كنا في هذه اللحظات محاصرين داخل طوق الدبابات والجنود, وسمحوا لنا بالتصوير). بعد دقائق توجهت القوات الجورجية نحو أراضي أوسيتيا الجنوبية من جديد. وبدأنا نسمع صوت طلقات الدبابات والمدفعية. وأعمدة النار والدخان تتصاعد من جديد في تسخينفالي. عرفنا أن جمهورية أبخازيا ـ غير المعترف بها ـ فتحت جبهة ثانية ضد جورجيا. وأن هناك معارك ساخنة في وادي كودوري. سمعنا أيضا أنباء متناقضة. فتارة تؤكد تبليسي أن قواتها تسيطر علي وادي كودوري, وقريبا ستدخل العاصمة سوخومي, وتارة أخري تؤكد القيادة البخازية أنها تلقن القوات الجورجية درسا لن ينسي في وادي كودوري. المعروف أن أكثر من95% من سكان أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا يحملون الجنسية الروسية. هؤلاء السكان يعيشون وفقا لنمط الحياة الروسي. هناك أيضا أوسيتيا الشمالية التي تدخل في نطاق روسيا الاتحادية. أي أن أوسيتيا الشمالية والجنوبية يسكنهما شعب واحد كل مواطنيه يحملون الجنسية الروسية, ولكن الشمالية تابعة لروسيا والجنوبية أعلنت استقلالها من طرف واحد عن جورجيا. أبخازيا أيضا أعلنت استقلالها من طرف واحد عن جورجيا. ومع ذلك لم تعترف روسيا بهذا الاستقلال وتدعو جميع الأطراف المتنازعة إلي التفاوض. غير أن قادة الجمهوريتين مصممون علي الاستقلال بصرف النظر عن الانضمام إلي روسيا من عدمه. الجمهوريتان ضد انضمام جورجيا إلي حلف الناتو. وفي حال الانضمام فإن روسيا ستفقد منفذها علي البحر الأسود. وكما نعرف فقد نفذت روسيا وعودها حسب اتفاقية اسطنبول وأخرجت جميع قواتها ومعداتها من القواعد العسكرية الروسية.قرب المساء عدنا إلي مدينة( جوري) سيرا علي الأقدام. تجولنا في المدينة المظلمة التي تكاد تكون خالية تماما من السكان. توجهنا إلي أحد الفنادق المليء بالجنود الجورجيين. وقبل أن نبدل ملابسنا اقتحم عدد ضخم( يصل إلي15 شخصا) من أفراد الاستخبارات العسكرية الجورجية, وبدأت الاحتكاكات والاتهامات بالتجسس. ووزعوا أفراد مجموعتنا الخمسة في غرف منفصلة واستمرت التحقيقات حوالي5 ساعات صادروا خلالها أوراقنا الشخصية والهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر والتصوير. وفي الساعة الواحدة من صباح10 أغسطس طردوا المجموعة من الفندق. وأمرونا بمغادرة مدينة( جوري) فورا. كان من الصعب العثور علي سيارة.. كان أمرا مستحيلا في مدينة تحولت إلي ثكنة عسكرية. استدعي قائد مجموعة الاستخبارات سيارة وأمر السائق بالتوجه إلي العاصمة تبليسي. ووصلنا قرب الساعة الخامسة من فجر يوم10 أغسطس.سادت العاصمة تبليسي حالة من التوجس والترقب والخوف. كل ما كان يسيطر علي الناس هو هاجس وصول القوات الروسية في أية لحظة لاحتلال العاصمة. أدركنا مدي خطورة الآلة الإعلامية التي يستخدمها النظام السياسي في جورجيا. بل وأدركنا أيضا أن هناك دعما إعلاميا غربيا غير محدود. في ذلك اليوم تجولنا في شوارع العاصمة. رأينا الناس منقسمين بالنسبة لرأيهم فيما يجري, وبالنسبة لسآكاشفيلي. فهناك شباب يسيرون بالسيارات رافعين الأعلام الجورجية منددين بروسيا وممارساتها. وهناك أمهات يتجمهرن أمام مبني البرلمان ينتقدون سآكاشفيلي وممارساته التي ستجلب النقمة علي البلاد. هؤلاء الأمهات كانوا خارج نطاق التغطية الإعلامية الجورجية والغربية. لقد أعلن سآكاشفيلي الأحكام العرفية في البلاد لمدة أسبوعين بسبب رفض الشباب التجنيد الإجباري للذهاب إلي الحرب في أوسيتيا الجنوبية. لاحظنا هجوما شديدا ضد الولايات المتحدة. إذ يؤكد الجورجيون البسطاء أن واشنطن وراء كل ما يجري, وأن سآكاشفيلي مجرد لعبة, وينفذ مخططا أمريكيا وأورو-أطلسيا. ظللنا نتجول في الشوارع حتي الساعة السابعة مساء. استمعنا إلي الناس, وناقشناهم. وشاهدنا جلسة مجلس الأمن, في التلفزيون, التي دار فيها النقاش بين المندوبين الدائمين لروسيا والولايات المتحدة. وشاهدنا المحطات التلفزيونية الغربية, واطلعنا علي الوكالات. أصابتنا الدهشة لكل ما يبث ويكتب. شعرنا بأن كل هؤلاء يشاركون في( شو) إعلامي مختلق من بدايته إلي نهايته. فتركيز القنوات الغربية علي أن الحرب بين روسيا وجورجيا, جعلنا ندرك أن الأمر مخطط له منذ فترة, وهناك تصميم علي توريط روسيا في أمر لا علاقة لها به.الغريب في الأمر أن القيادة الأوكرانية أدلت بجملة خطيرة من التصريحات. فبمجرد دخول أبخازيا الحرب إلي جانب أوسيتيا الجنوبية, قامت روسيا بإرسال مجموعة من سفنها الحربية التابعة لأسطول البحر الأسود الروسي المتمركز في ميناء سفاستوبل بشبه جزيرة القرم في أوكرانيا. وأعلنت كييف أنها لن تسمح بعودة هذه السفن مرة أخري إلي الأسطول الروسي. غير أن التصريح بدا مثيرا للابتسام لأن أوكرانيا لا تملك الحق في ذلك. ولكنها أرادت الإعراب عن الدعم وحسن النية تجاه القيادة الجورجية الصديقة, إضافة إلي التلميح لواشنطن فبما إذا كان هناك دور أوكراني مطلوب.قبل بدء الحرب بأيام قليلة تفجرت فضيحة التسليح السري الذي تقوم به إسرائيل للجيش الجورجي. كان معروفا أن تل أبيب تزود تبليسي بطائرات التجسس بدون طيارين. ولكن اتضح أن الأمور أكبر وأوسع وأعمق بين البلدين الصديقين. روسيا أعربت عن امتعاضها من ممارسات إسرائيل, ما دفع القيادة الإسرائيلية إلي إلغاء بعض الصفقات مع تبليسي. تفجرت أيضا فضيحة تزويد أوكرانيا جورجيا بالأسلحة, وبمنظومات صواريخ حديثة. هنا ننتقل إلي اللعبة الجورجية-الأوكرانية بشأن معاداة روسيا, وتقديم كل فروض الولاء والطاعة للولايات المتحدة من أجل الانضمام إلي حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. إن آخر مدينة روسية علي الحدود بين روسيا وأوكرانيا( بلجرد) تبعد عن موسكو بحوالي750 كم. أي أن جنود الناتو سيكونون علي بعد750 كم من الكرملين. أما الحدود الجورجية المحاذية لروسيا من ناحية الشيشان فتبعد حوالي1200 كم فقط. معني ذلك أن قوات الناتو في حال انضمام جورجيا وأوكرانيا إليه ستضرب طوقا حول روسيا.بعيدا عن التحليلات السياسية. تمكنا من العثور علي سيارة في الساعة الثامنة من مساء يوم10 أغسطس. نقلنا السائق إلي الحدود مع أرمينيا. وأثناء الدخول علمنا أن جميع أفراد طاقم السفارة الأمريكية في تبليسي غادروها. وعلمنا أيضا أنهم مروا قبلنا بعدة ساعات. تأكدت هذه الأنباء عندما وصلنا إلي العاصمة الأرمينية يريفان حوالي الساعة الخامسة من صباح يوم11 أغسطس. وفي يوم12 تمكنا من الحصول علي بطاقات إلي موسكو. لقد ضربت السلطات الجورجية حصارا إعلاميا علي الجورجيين حتي من قبل بداية الحرب مع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. أغلقت جميع مواقع النت الروسية أو التي لها علاقة بروسيا. منعت القنوات التليفزيونية والصحف الروسية. وأصبح الإعلام الحكومي هو المنفذ الوحيد للحصول علي أي معلومات.من جهة أخري يحاول الرئيس الجورجي ميخائيل سآكاشفيلي تقديم كل ما يمكن تقديمه لمرشح الرئاسة الأمريكي( الجمهوري) جون ماكين. إذ إن الجمهوريين يريدون اختراع أي حرب مع روسيا لإقناع الناخب الأمريكي بأنهم الأقدر علي إدارة المعارك مع هؤلاء الروس. وإذا فشل جون ماكين في دخول البيت الأبيض, فهو لا يريد أن يفقد الكونجرس ويعطيه للديمقراطيين. سآكاشفيلي لا يريد مجيء الديمقراطيين الذين قد يوجهون إليه انتقادات بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان, ويحرمونه من مساعدات تصل إلي375 مليون دولار سنويا. هذا في الوقت الذي تقدم إليه روسيا2 مليار دولار سنويا عن طريق مليون جورجي يعملون علي أراضيها*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق