السبت، 27 يونيو 2009

الدور الروسي في تسوية المشاكل بين إسرائيل والفلسطينيين


أشرف الصباغ
ليس معادة للسامية الفلسطينية ولا دفاعا عن روسيا

بعد أكثر من 10 سنوات على غياب ما يسمى بـ "الدور الروسي" في الشرق الأوسط تحاول السياسة الخارجية الروسية في السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة العودة إلى المنطقة. برز ذلك من خلال عرض النظرية الروسية في مجال السياسة الخارجية التي صادق عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومن خلال إعلان وزير الخارجية السابق إيجور إيفانوف بأن بلاده تسعى إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط باعتبارها أحد راعى مسيرة التسوية في المنطقة. واعتبر إيفانوف أن استعادة روسيا لمواقعها في الشرق الأوسط وفى المنطقة العربية بالذات إحدى المهام الأساسية في قائمة أولويات السياسة الخارجية الروسية. من هنا تحديدا تتجه نوايا موسكو الجدية إلى اتباع سياسة المشاركة النشطة في تطبيع الوضع الشائك بالمنطقة.

آفاق الدور الروسي
تنبهت موسكو أخيرا إلى أهمية وجودها في الشرق الأوسط وعادت قضية الشرق الأوسط لتحتل مكانة هامة في قائمة أولويات السياسة الخارجية الروسية باعتبارها أحد الأبواب الرئيسية التي يمكن أن تعيد موسكو إلى المنطقة بعد أن دمرت سياسات الإصلاحيين الروس الجدد الذين سيطروا على مقاليد السلطة في الكرملين طوال 10 سنوات العديد من العلاقات بين موسكو والدول العربية. وبالرغم من أن روسيا تعتبر أحد راعى السلام في التسوية السياسية بالشرق الأوسط إلا أن الكرملين يدرك أن تأثيره على مسيرة التسوية السلمية يكاد يكون معدوما. كما أن تحرك الدبلوماسية الروسية بين الحين والآخر في إطار دفع مسيرة التسوية السلمية لا يستهدف أساسا إلا استخدام هذا المدخل للعودة إلى المنطقة كبداية لتحقيق مصالحها بعد أن فقدت الكثير منها خلال السنوات العشـر الماضية. بيد أن روسيا الجديدة التي تعلن دوما من خلال سياستها الخارجية عن رغبتها الصادقة في العودة إلى منطقة الشرق الأوسط من أجل المشاركة الفعالة في التسوية السلمية ليست هي روسيا التي لا تزال في أذهان الكثيرين بالعالم العربي. هناك العديد من التغيرات التي لحقت بروسيا نفسها، ناهيك عن تركيبة النظام السياسي والتحولات الجذرية التي حدثت طوال أكثر من 14 عاما الأمر الذي يجب أخذه بعين الاعتبار أثناء الحديث عن عودة روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط وآفاق الدور الروسي في مسيرة التسوية السلمية. لعل أهم التحولات التي حدثت هو طابع العلاقات الروسية الإسرائيلية التي شهدت ازدهارا ملحوظا في السنوات الأخيرة وأصبحت تشكل مصدر قلق للولايات المتحدة الأمريكية نفسها. ترتكز هذه العلاقات على 3 محاور أساسية: الأول، المهاجرون اليهود من الاتحاد السوفيتي وروسيا الاتحادية الذين وصل تعدادهم إلى أكثر من مليون شخص. الثاني، التعاون الروسي الإسرائيلي في مجال الاستثمار والصناعـات العسكرية. الثالث، وجود أكثر من مليون يهودي في روسيا يحمل غالبيتهم الجنسية الإسرائيلية، أو جنسية دولة أخرى أوروبية (وهذا العدد تحديدا جاء على لسان حاخام روسيا الأكبر بيرل لازار عندما أعلن نفيه للإحصائيات الروسية الخاصة بهذا الموضوع، والتي قالت بأن عدد اليهود في روسيا 350 ألف شخص فقط).يشكل المهاجرون اليهود الروس (ومن جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق) حوالي سدس سكان إسرائيل، وبالتالي تحولوا إلى قوة سياسية واقتصادية ضاغطة ليس فقط على الحكومة الإسرائيلية، بل وأيضا على الكرملين. وبفضل هجرة عشرات الآلاف من الخبرات العلمية والتقنية الروسية تمكنت إسرائيل من اللحاق بالتطور العلمي وامتلاك طاقات علمية توازى ما لدى أوروبا الغربية كلها، وأصبحت تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية من حيث نصيب الفرد من الاختراعات العلمية. هذا إلى جانب أن المهاجرين الروس يشكلون ثلث مجموع العاملين في المجال التكنولوجي الإسرائيلي، وخاصة في التكنولوجيات الرفيعة، ولهم الفضل في زيادة صادرات إسرائيل في هذا المجال بنسبة 30% بالمقارنة بالسنوات السابقة. في ظل هذا الوضع كان من البديهي أن تتشكل أحزاب يهودية روسية في إسرائيل. ولعل أبرز هذه الأحزاب حزب "إسرائيل بعاليا" الذي يتزعمه وزير الداخلية الإسرائيلي سابقا، ووزير البناء سابقا أيضا، ووزير الأقليات حاليا ناتان تشارانسكي الذي كان قد هرب من الاتحاد السوفيتي في السبعينات بعد اتهامه بالتجسس لحساب المخابرات الأمريكية. أما حزب "بيتنا إسرائيل" (وهو على غرار حزب "بيتنا روسيا" الذي تزعمه فيكتور تشيرنوميردين وحكم روسيا فترة طويلة خلال وجود يلتسين في السلطة) والذي يتزعمه جيرمان اليهودي السوفيتي من أصول مولدافية فقد ظهر على الساحة السياسية في إسرائيل على أثر انشقاق في حزب شارانسكي ليصبح ثاني قوة سياسية روسية في إسرائيل. من ناحية أخرى تشهد علاقات التعاون بين روسيا وإسرائيل تطورات هامة في مجال التصنيع الحربي حيث نجحت مجموعة مشتركة من خبراء البلدين في تطوير نموذج طائرات "سوخوي 30" المقاتلة متعددة الأهداف، وكذلك تحديث أجهزة التصويب والرادار في عدد من نماذج المروحيات العسكرية الروسية، وبذلك أصبحت هذه النماذج تنافس مثيلاتها في الدول الغربية مما أثار شهية دول حلف الأطلنطي التي راحت تتسابق على شرائها. وعلى الصعيد السياسي قامت إسرائيل بمساندة موسكو في مواقفها من أزمة كوسوفو وأدانت دعم حلف الأطلنطي لألبان كوسوفو محذرة من مخاطر قيام دولة طائفية. كما أيدت أيضا حملات موسكو العسكرية ضد الانفصاليين الشيشان معتبرة أن مكافحة "التطرف" الإسلامي أصبحت مهمة عالمية من أجل حماية الديمقراطية. في هذا الإطار، وعلى ضوء التقارب الروسي-الإسرائيلي يمكن القول بأن تفعيل الدور الروسي في حل أزمة الشرق الأوسط وفي مسار التسوية السلمية قد يشكل ضررا لمصالحها لأنه سيجبرها على الانحياز إلى أحد الطرفين وبالتالي ستخسر الطرف الثاني. ومع ذلك فمسألة الانحياز هذه وخسارة أحد الطرفين المترتبة عليها ليست هكذا ميكانيكية إلى هذا الحد، لأن أمريكا على سبيل المثال تعلن ضمنا وصراحة وبوضوح شديد عن انحيازها لإسرائيل ومع ذلك لم تخسر أي من الأطراف العربية وبالذات السلطة الفلسطينية. فهل فعلا سيكون هناك دور روسي فعال ومؤثر؟ وإلى أي مدى سيكون فعـالا ومؤثرا؟

توجهات جديدة أم ضعف سياسي
في الوقت الذي تنطلق فيه التصريحات النارية لمختلف الأطياف السياسية الروسية بما في ذلك ممثلي السلطة الرسمية في الكرملين من حيث الشجب والإدانة للسلوك الإسرائيلي في تعامله مع الأحداث في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك اليمين الروسي الذي-على النقيض تماما-أدان رد فعل الشارع الفلسطيني والعربي على وقاحة السلطة الإسرائيلية ويمينها الفاشي في استفزاز وقمع المواطن الفلسطيني الأعزل، تصورت العديد من القوى السياسية العربية أن الدور الروسي آت لا محالة، وسوف تلعب روسيا دورها التاريخي في مباحثات التسوية السلمية في الشرق الأوسط. بل وظلت وسائل الإعلام العربية تناشد روسيا بالقدوم إلى المنطقة والتدخل على قدم المساواة مع الولايات المتحدة الأمريكية كراعي سلام. ولكن هل كانت توجد حقا لدى روسيا رغبة فعلية في المشاركة الجادة والعملية في التسوية السلمية بالشرق الأوسط؟ أم إنها تنتظر أن يفشل "الراعي" الأمريكي تماما ومن ثم يأتي الجميع على أربع لاستجدائها في المشاركة؟ وهل روسيا في حالة سياسية-اقتصادية تسمح لها بهذه بالمشاركة في ظل التغيرات الدولية الجديدة، والتغيرات داخل روسيا نفسها؟ الإجابة على مثل هذه الأسئلة متعلقة بالعناصر التي تتحكم في الشارع السياسي الروسي وتوجهات السياسة الخارجية الروسية في السنوات الأخيرة. وإذا تعرضنا على عجالة لواحد من أهم العناصر التي تتحكم في القرار السياسي الروسي، فسوف نكتشف أن اليمين في روسيا، والأكثر فاشية ليس فقط من الحكومة الإسرائيلية، بل وأيضا من اليمين الفاشي الإسرائيلي، لا يكف عن تريد تلك المقارنة الساذجة بين الصراع الروسي الشيشاني والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ونظرا لأن 95% من وسائل الإعلام الروسية إما مملوكة لطواغيت مال يهود، أو تعمل بأموالهم، فهذه المقارنة تجد استجابة عالية من الشارع السياسي الروسي ولدى المواطن البسيط على حد سواء. ومن هنا أصبحت مصطلحات "الإرهاب" و"الإرهاب الفلسطيني" و"الإرهاب الإسلامي" و"الأعمال الإرهابية" كلها تحمل معنى واحدا وتنطبق تماما على كل ما يحدث في الأراضي العربية المحتلة وتتساوى في ذهن المواطن الروسي مع نفس المصطلحات التي تبثها وسائل الإعلام يوميا بشأن ما يجرى في الشيشان. ولعل "الحج" المتواصل للمسؤولين الإسرائيليين إلى موسكو يوضح المعادلة التي يرتكزون إليها في تعاملهم مع الروس بخصوص التسوية في الشرق الأوسط. فاليمين الروسي يرسخ لمفهوم المقارنة التي ذكرناها أعلاه، ويأتي المسؤولون الإسرائيليون جماعات لعيدوا الذاكرة إلى قادة الكرملين مطالبين روسيا بالوقوف إلى جانب إسرائيل في محاربة الإرهاب مثلما وقفت إسرائيل-ومازالت تقف-مع روسيا في مقاومتها لـ "الإرهاب" الشيشاني". وفي استطلاع للرأي العام الروسي أجراه صندوق "الرأى العام" برزت بعض النتائج المنطقية تماما. فبخصوص السؤال عن تدهور الأوضاع في الشرق الأوسط وأهمية ذلك للمواطن الروسي أجاب 62% بأنهم قلقون من ذلك، ورأى 18% أن المشكلة لا تهمهم، و14% لا يعرفون أي شيء عن الموضوع. وعن السؤال بشأن الطرف الذي يتحمل مسؤولية اندلاع حرب في الشرق الأوسط أجاب 37% بأن المسؤولية تقع بالتساوي على الفلسطينيين والإسرائيليين، ورأى 10% أن المسؤولية تقع على الجانب الإسرائيلي، و8% على الفلسطينيين. أما بخصوص تدخل روسيا في النزاع فقد رأى 52% أن روسيا لا يجب أن تتدخل، و5% يرون أن تقوم روسيا بدعم الإسرائيليين، و6% يرون دعـم الفلسطينيين. إن التدهور الاقتصادي والسياسي في روسيا ليس السبب الوحيد-كما يتصور بعض الحالمين-في "خلعها" من العديد من المواقع الحيوية في العالم. ولعل ضرب الناتو ليوغسلافيا هو أكبر الدلائل التي تشير إلى أن روسيا قد بدأت تنتهج سياسة خارجية برجماتية تماما حتى في علاقتها بحلفائها المصيريين مثل يوغسلافيا. لم يعد يهم السياسة الخارجية الروسية التواجد في البلقان أو في الشرق الأوسط إلا بالقدر الذي ترى فيها مصالحها القريبة والمباشرة. ولعل أخطر دليل هو المحاولات الحثيثة التي تجرى لخلع روسيا من منطقة وسط آسيا. فعلى الرغم من انتباه الروس لهذا الأمر، فهم لا يبدون أي رد فعل إلا عندما يمس الأمر مصالحهم المباشرة بعكس ما كان جاريا في الماضي باعتبار أن منطقة وسط آسيا هي العمق الاستراتيجي لروسيا. معنى ذلك، هل لو كانت روسيا ما بعد السوفيتية قوية سياسيا واقتصاديا، كان من الممكن أن تشارك بصورة مؤثرة في مباحثات التسوية السلمية في الشرق الأوسط؟ وهل لو كانت روسيا قوية، كان من الممكن أن تقف إلى جانب العرب في المطالبة بحقوقهم المشروعة التي نصت عليها قرارات الأمم المتحدة؟ إن الإجابة على هذين السؤالين تثبت بالقطع أن روسيا ما بعد السوفيتية تتراجع عن مواقعها التقليدية ليس فقط بسبب تدهور أوضاعها، ولكن أيضا-وهذا هو الأمر الرئيسي-بسبب توجهات السياسة الخارجية البراجماتية التي تنتهجها روسيا الجديدة.

ليس دفاعا عن روسيا
ما هو المطلوب من روسيا بالضبط؟! والمقصود هنا روسيا الجديدة "الموجودة" على أرض الواقع وليس الاتحاد السوفيتي "غير الموجود" أساسا!إن الحديث عن ترتيب ما يسميه الحالمون أو الانتهازيون بـ "البيت العربي" يدخل في إطار الحديث عن الشعارات الفارغة وأكل العيش. والأجدى أن يتم الحديث عن أشكال واقعية وعملية جديدة للتعاون بين الدول المتحدثة بالعربية. فما يسمى بـ "العرب"، ككتلة واحدة موحدة، أصبح أمر يثير ضحك الجميع وسخريتهم، لأن المحور الأساسي الذي يجمعهم هو الخلافات والاختلافات. أي أن المسألة تجاوزت نسبة الاختلاف والاتفاق لتصل الآن إلى الخلاف والاختلاف فقط! حتى في ما يسمى بـ "الثوابت الوطنية". والمقصود هنا "المشاكل بين الفلسطينيين والإسرائيليين".إن نسبة الإسهام العربي في تدهور القضية الفلسطينية تتجاوز نسبة الإسهام الإسرائيلي والأمريكي مجتمعين. فالعرب يفسدون هذه القضية كل بقدر مصالحه، ومن أجل غسل اليدين من دماء الأطفال يطالبون الدول الأخرى بالوقوف إلى جوارهم ومساندة القضايا العربية. ولن نشتط كثيرا إذا أشرنا إلى أن الفلسطينيين أنفسهم لهم إسهامهم العظيم في هذا المجال أيضا. وهنا لا تختلف المنظمات الدينية الأصولية عن مثيلاتها الأصولية التي تعمل تحت شعارات سياسية وتحررية ووطنية. أما المحور الأخطر، فهو الفلسطينيون أنفسهم. هل يعرفون ما يريدون؟ وهل يعرف كل فصيل أو مجموعة ما يريد؟ وهل أدت سلطة الفرد الواحد إلى نتيجة مهمة على أداء السلطة الوطنية الفلسطينية؟ إذن، فكيف يطلب الفلسطينيون المساندة والدعم، وهم أصلا ليس فقط مختلفون، وإنما يتصارعون وينحرون بعضهم البعض، سياسيا وأمنيا وعسكريا؟ والأدهى والأمر أن الأمور لا تقف عند هذا الحد، وإنما تتجاوزه إلى تشكيل طوابير خامسة بين الفلسطينيين أنفسهم للوشاية بالآخرين وببعضهم، وإطلاق الاتهامات جزافا سواء بالعمالة أو الصهيونية أو الكفر بـ "العروبة" والقضايا العربية أو معاداة فلسطين (على وزن "معاداة السامية")، والتدخل في ضمائر الآخرين سواء عرب أو أجانب! ولكي نكون أكثر موضوعية، فكل ذلك ناتج أساسا عن "طريقة تفكير" نشأت وترعرعت في ظل الاستبداد والفساد والديكتاتورية. لكن الخطير أن تظل هذه العقلية تعمل بنفس الطريقة في ظل كل تلك المتغيرات الدولية.إن المبدأ الإنساني البسيط "كن محل ثقة، وثق بنفسك أولا، لكي أثق بك"، يتحول ببساطة هنا إلى دستور للتعامل ولاحترام النفس، واحترام ذكاء الآخر ومصالحة، وإلا سيظل العرب نعاجا، وسيبقى الفلسطينيون أولادا مدللين يكسرون ويحطمون، ثم يعودون فيبكون ويتوسلون.إن مطالبة أية دولة، وروسيا كمثال، بالوقوف إلى جانب القضايا العربية، وبالذات المشاكل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يرتكز في الأساس ليس إطلاقا إلى مصالح عربية أو غير ذلك من شعارات قديمة متهالكة ومستهلكة، وإنما على أوهام قديمة لمنظومة علاقات عفا عليها الدهر، ولكنها لا تزال تمثل مصدرا للأكل العيش. هذا في الوقت الذي يطعن فيه العرب بعضهم البعض، ويوشي الفلسطينيون ببعضهم وبالآخرين. فكيف يمكن أن نطالب روسيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة، أو حتى إسرائيل بالوقوف إلى جوار "الحملان الوديعة"؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق