السبت، 27 يونيو 2009

جوجول والمأمون: معطف من أدب وعرش من علم


خصصت روسيا هذا العام للاحتفال بمرور‮ ‬مائتي عام علي ميلاد‮ ‬الكاتب الروسي نيقولاي جوجول صاحب‮ "‬الأنف‮" ‬و"المفتش العام‮" ‬و"الأنفس الميتة‮". ‬الاحتفال مخطط له منذ خمسة أعوام،‮ ‬حيث أصدر الرئيس الروسي آنذاك‮ (‬رئيس الوزراء الحالي‮) ‬فلاديمير بوتين مرسوماً‮ ‬جمهورياً‮ ‬تلتزم به مؤسسات الدولة الروسية كافة،‮ ‬للمشاركة في الاحتفال‮.‬الكاتب والمترجم أشرف الصباغ‮ ‬يقدم في هذا البستان تقديماً‮ ‬لصاحب‮ "‬المعطف‮" ‬الذي خرج منه كل الأدب الروسي مع ترجمة لمقال نادر له عن الخليفة العباسي المأمون الذي جعل من بلاطه مكاناً‮ ‬للعلم وقاد حركة تنوير‮ ‬غير مسبوقة في تاريخ الدولة العربية.
أكبر من مجرد‮ ‬ كاتب فكاهي
أشرف الصباغ
يحلو للبعض،‮ ‬وفي روسيا أيضا،‮ ‬الحديث‮ ‬عن قدرة جوجول العبقرية بقولهم‮: "‬لقد استطاع نيقولاي جوجول إضحاك القراء بشكل لا يقل عن موليير وفيلدنج‮. ‬فالعديد من شخصيات أعماله مشوهون وغامضون مثل أبطال هوفمان‮". ‬ولكن بالرغم من أن بعض ميزات جوجول،‮ ‬ككاتب عبقري،‮ ‬يمكن أن تقارن بمواهب المبدعين الآخرين،‮ ‬إلا أنه يصنف بين الكتاب الأكثر استثنائية‮. ‬اعتبر البعض جوجول مؤلف‮ "‬كتب مضحكة جدا‮"‬،‮ ‬و"فكاهي لا نظير له‮"‬،‮ ‬غير أن كتاباته المضحكة تشابكت مع عالم‮ ‬غير مرئي من التراجيديا والدموع والكوارث النفسية البشرية‮. ‬وخلال قراءة كوميدياه الأفضل من وجهة نظر الكثيرين،‮ "‬المفتش العام‮"‬،‮ ‬من الممكن الإحساس علي الفور بمرارة الكاتب في وصف‮ "‬الجانب المظلم‮" ‬من حياة تلك المجتمعات المتخلفة علي الرغم من إن الموضوع كتب عن روسيا‮. ‬وسنتحدث لاحقا عن موضوع‮ "‬الجانب المظلم‮"‬،‮ ‬لأنه يثير الكثير من المشاكل في روسيا عموما،‮ ‬وفي أوساط الإنتلجنسيا الروسية وبعض الدوائر التي تفضل دفن رأسها في الوحل متصورة أنها تختفي،‮ ‬وتخفي ما فيها،‮ ‬عن العيون الأخري‮.‬نيقولاي جوجول ولد في‮ ‬1‮ ‬أبريل عام‮ ‬1809‮ ‬في منطقة‮ "‬فيليكي سوروتشينتسا‮" ‬في حاكمية‮ "‬بولتافا‮" ‬التابعة لأوكرانيا آنذاك،‮ ‬وهو ينحدر من أصول أوكرانية-بولونية نبيلة هي‮ "‬الجوجولية اليانوفسكية‮". ‬توفي والد جوجول فاسيلي يانوفسكي عندما كان ابنه في الخامسة عشر‮. ‬وأصبحت والدته ماريا أرملة وهي في سن الثلاثين مع أربعة الأطفال‮. ‬قامت ماريا بإرسال ابنها البكر نيقولاي للدراسة في مدرسة‮ "‬بولتافا‮"‬،‮ ‬وبعد ذلك في المدرسة الداخلية نيجينسك‮ (‬المدرستان في أوكرانيا‮). ‬وبمجرد انتهاء‮ "‬كوليا‮" ‬من الدراسة وحصوله علي الشهادة انطلق يشق‮ "‬مسيرته‮" ‬المهنية في العاصمة الروسية سانت بطرسبورج‮. ‬كان الفتي كوليا يحلم بنشاطات اجتماعية واسعة النطاق ليس إطلاقا في المجال الأدبي وإنما في خدمة الدولة‮. ‬ولكن الخيبة‮ "‬الثقيلة‮" ‬كانت تنتظره بفارغ‮ ‬الصبر في سانت بطرسبورج،‮ ‬حيث المصروفات التي رصدتها له الأم كانت في‮ ‬غاية التواضع في مدينة كبيرة كهذه‮. ‬وبالتالي لم تتحقق آماله وأحلامه الباهرة‮. ‬آنذاك يقوم كوليا جوجول بأول تجاربه الأدبية،‮ ‬حيث خرجت إلي النور قصيدته‮ "‬إيطاليا‮" ‬مع بداية عام‮ ‬1829‮ ‬تحت اسم مستعار هو‮ "‬ف‮. ‬ألوف‮"‬،‮ ‬وكانت تدور حول ربيع ذلك العام‮. ‬ولكنه قام بإتلافها علي الفور،‮ ‬إتلاف أول إبداعاته حينما تعرض لانتقادات قاسية من نقاد سانت بطرسبورج الذين لم يكونوا يرحموا أحدا‮. ‬وفي رواية أخري يقال أنه جاء إلي سانت بطرسبورج ببعض قصائده ومن ضمنها قصيدة بعنوان‮ "‬هانز كويتشيلجارتين‮" ‬حول طالب ألماني رومانسي‮. ‬نشرت عام‮ ‬1829،‮ ‬ولكنها كانت قصيدة تقليدية جدا فرفضها النقاد بالكامل‮. ‬ولم يتحمل جوجول هذه الضربة ففقد اهتمامه بكل شيء حتي عمله وترك روسيا متوجها إلي أوروبا‮. ‬وبعد ذلك ظهرت سانت بطرسبورج،‮ ‬التي قابلته وتعاملت معه بقسوة،‮ ‬في كتاباته كـ‮ "‬معقل‮" ‬للشر وانحطاط النظام البيروقراطي‮.‬في أبريل عام‮ ‬1830‮ ‬وجد جوجول عملا ككاتب في دائرة حكومية وبقي فيه ما يقرب من العام‮. ‬إلا أنه في نهاية المطاف ترك العمل في الخدمة الحكومية‮. ‬تركه بخيبة أمل ولكن بمجموعة هائلة من الأفكار والانطباعات التي ظهرت في المستقبل‮. ‬وفي عامي‮ ‬1830‮-‬1831‮ ‬تعرف الكاتب علي الشاعر والكاتب فاسيلي جوكوفسكي،‮ ‬وعلي شاعر روسيا الأعظم ألكسندر بوشكين الذي ترك تأثيرا عظيما عليه‮. ‬وفي عامي‮ ‬1831‮-‬1832‮ ‬نشر جوجول‮ "‬أمسيات علي مزرعة قرب ديكانكا‮"‬،‮ ‬وهي قصة قصيرة مبنية علي موضوعات أوكرانية‮. ‬استند جزء منها إلي موضوعات شعبية سلافية-أوكرانية حول اللقاءات المرعبة بين الناس والعالم الآخر،‮ ‬وتناول البعض الآخر منها صور أعياد القرية المرحة‮. ‬وأعرب الشاعر ألكسندر بوشكين عن انطباعاته حول‮ "‬ديكانكا‮" ‬بقوله‮ "‬كان ذلك مدهشا‮. ‬ذلك الذي أدعوه بالمرح الحقيقي‮ ‬غير العاطفي أو الحماسي،‮ ‬وإنما البريء الصافي‮! ... ‬والشاعري جدا‮!" ‬وهنا تحديدا بدأت خطوات الكاتب علي الطريق الأكبر للأدب العالمي،‮ ‬حيث حملت هذه المادة نجاحا عظيما له‮.
‬ملحمة النصاب
في خريف عام‮ ‬1835‮ ‬بدأ العمل علي رواية‮ "‬الأنفس الميتة‮". ‬تلك الرواية التي حولته إلي كاتب مشهور عالميا‮. "‬الأرواح الميتة‮" (‬التي يقال أن بوشكين هو الذي اقترح فكرتها‮) ‬هي ملحمة جوجول التي تدور حول التاجر‮ "‬النصَّاب‮" ‬بافل تشيتشيكوف،‮ ‬والتي أصبحت موضوعا شعريا حيويا عندما بدأت روسيا البناء الرأسمالي‮. ‬فقد قام النصاب بشراء أسماء موتي من ملاك الأراضي بهدف جمع ثروة طائلة ببيع أسماء‮ "‬هذه الأرواح الميتة‮" ‬كما لو كانوا أحياء‮. ‬وعموما فرجال الأعمال الذين ظهروا في ما بعد في روسيا السوفيتية،‮ ‬وروسيا الحالية ما بعد السوفيتية،‮ ‬كان ولا يزال لديهم موهبة تشبه موهبة تشيتشيكوف لجني المال من لا شيء من خلال بيع شقق‮ ‬غير موجودة أو أسهم في مشاريع خيالية‮. ‬ولعل أعظم وأخلد ما في هذه المعزوفة التراجيدية المرعبة،‮ ‬هو أن جوجول استطاع باستثنائية إبداعية متفردة تجسيد روح التاجر الروسي ليس فقط في زمنه،‮ ‬وإنما في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين‮. ‬بل والأكثر إثارة للدهشة هو أن نماذج شخصيات‮ (‬الأرواح الميتة‮) ‬يمكن أن يلتقيها أي إنسان عابر في شوارع موسكو وسانت بطرسبورج في هذه الأيام‮. ‬في أبريل عام‮ ‬1848،‮ ‬وبعد رحلة إلي فلسطين لرؤية الضريح المقدس،‮ ‬عاد جوجول أخيرا إلي موسكو واستعد لكتابة المجلد الثاني من جديد‮. ‬وفي أواخر يناير عام‮ ‬1852‮ ‬أصيب جوجول بنوبة أخري اقتربت به بشكل كبير من هاجس الموت الوشيك‮. ‬وفي ليلة‮ ‬12‮ ‬فبراير ألقي بمخطوطة المجلد الثاني في النار‮. ‬لقد خطط جوجول بعيدا لتشيتشيكوف بل وكتب حتي الجزء الثاني من هذه الملحمة،‮ ‬لكنه أحرقه بعد‮ ‬10‮ ‬سنوات من إصدار المجلد الأول‮. ‬وبسبب الجدل المتواصل حول أسباب هذا‮ "‬الإعدام‮" ‬للعمل فالدوافع المستشهد بها عموما تتضمن أزمة عقلية واستياء الكاتب من عمله الجديد‮. ‬أما نصه الدرامي‮ "‬المفتش العام‮" ‬فلم يفقد حيويته إلي يومنا هذا‮. ‬فطوال القرن التاسع عشر،‮ ‬والعشرين،‮ ‬تعرض مسؤولون سوفيت وروس لنفس الظروف كأسلافهم في العصور القيصرية،‮ ‬ونالوا ما يستحقون بداية من تراكيب جوجول التي دخلت إلي صلب الميثولوجيا الشعبية الروسية،‮ ‬وانتهاء بما تتكشف عنه قرائح الناس الذين تربوا علي هذا التراكيب‮. ‬ولن نجد مسرحا ليس فقط في الجمهوريات السوفيتية الـ‮ ‬15‮ ‬السابقة،‮ ‬وإنما أيضا في العالم كله لم يتناول‮ "‬المفتش العام‮" ‬في معالجات درامية مختلفة‮. ‬ناهيك عن تناولها كمسلسلات تلفزيونية أيضا‮. ‬لدرجة أن الصحافة كانت علي الدوام،‮ ‬ولا تزال تقارن الموظفين المقرفين بنصابي جوجول‮.‬من الطريف هنا أن نتذكر ملاحظة القيصر الروسي نيقولاي الأول عندما شاهد عرض الافتتاح لمسرحية‮ "‬المفتش العام‮" ‬عام‮ ‬1836‮ ‬حيث قال‮: "‬حصل كل شخص علي ما يستحق،‮ ‬وأنا أكثر من‮ ‬غيري‮" ‬الوجهاء لم يخفوا عدم رضاهم بينما الجمهور كان منتشيا‮. ‬الكوميديا التراجيدية جدا،‮ ‬والتي بنيت علي خداع الذات،‮ ‬تتعرض لمجموعة من المسؤولين الإقليميين‮ ‬غير المبدئيين،‮ ‬أو بالأحري الأفاقين،‮ ‬الذين ينتظرون برعب وصول المفتش العام الذي من المفترض أنه سيكشف العديد من الألاعيب والمخالفات التي يمارسونها‮. ‬ولكنهم يخطئون الاعتقاد عندما يستقبلون زائرا عاديا متصورين إنه المفتش العام‮. ‬وتستمر المفارقات الخطيرة إلي أن يصل المفتش العام‮) ‬الحقيقي في اللحظة‮ ‬غير المناسبة‮. ‬وإذا كانت لحظة‮ (‬المفتش العام‮ ‬غير المناسبة صنعت مفارقة كوميدية،‮ ‬فاللحظات‮ ‬غير المناسبة تاريخيا تصنع من مصائر الشعوب مآسي وتراجيديات‮. ‬وها بالذات ما يجعل‮ (‬المفتش العام‮) ‬عمل خالد بكل المعايير‮. ‬في‮ ‬4‮ ‬مارس‮ (‬21‮ ‬فبراير حسب التقويم القديم‮) ‬عام‮ ‬1852‮ ‬توفي جوجول في موسكو ودفن في دير دونسكوي،‮ ‬أحد أماكن موسكو التاريخية‮. ‬وبعد عام‮ ‬1917‮ ‬نقل قبر الكاتب إلي مقبرة نوفوديفيتشي حيث يرقد مجموعة من الأشخاص المشهورين في وسط موسكو‮.
‬الروح الروسية‮
‬لم تكن عبارة ديستويفسكي‮ (‬كلنا خرجنا من معطف جوجول‮) ‬مجرد مبالغة أو محاولة بلاغية قصد منها إجلال الرجل،‮ ‬وإنما كانت نابعة أساسا من قناعته بأن الأدب الروسي الحقيقي قد بدأ فعليا بجوجول‮. ‬أما المقصود بـ‮ "‬معطف جوجول فهو قصة المعطف التي اعتبرها ديستويفسكي مثالا نموذجيا للعمل الفني‮. ‬الروح الروسية ماتزال هائمة إلي الآن‮. ‬جسدها كل كاتب بطريقته،‮ ‬لكن هناك‮ ‬غصة لدي الروس،‮ ‬رغم كل ما يحملونه من احترام وتبجيل لديستوفيسكي،‮ ‬من تعامل هذا الكاتب‮ (‬ديستويفسكي‮) ‬مع الروح الروسية،‮ ‬إذ تمكن من إعمال مشرطه الحاد في أعمق أعماق الجوانب المظلمة فيها‮. ‬لم يغفر له الكثيرون‮ ‬_‮ ‬إلي الان‮ - ‬هذه الطريقة المرة التي سلط بها الضوء علي تلك الجوانب المظلمة‮. ‬أما جوجول فقد تعامل بطريقة أخري نسبيا مع تلك الروح ففضحها أيضا وكشف عن عوراتها‮. ‬أي أن الكاتبين وجهان لعملة واحدة‮. ‬وهناك أوجه شبه بارزة الملامح بينهما‮: ‬التدين،‮ ‬والمرض النفسي،‮ ‬واستعداء السلطة،‮ ‬الكشف-الفضح‮ (‬وإن اختلفت الأساليب‮). ‬واختلاف الأساليب هو الذي كاد يودي بديستويفسكي إلي الإعدام،‮ ‬بينما دفع جوجول إلي حالة من الجنون المرضي‮. ‬مشرط الكاتبجوجول،‮ ‬المغرق في روسيته،‮ ‬يذكرنا علي الفور باثنين من عظماء ما يسمي بـ‮ "‬الحضارة العربية الإسلامية‮": ‬أبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي‮. ‬وهو أكثر شبها بالثاني‮. ‬وإذا كانت الأدبيات تظهر أن بوشكين هام بالثقافة العربية،‮ ‬وقام ديستويفسكي هو الآخر بزيارات لشرقنا‮ "‬السعيد‮" ‬شعورا منه بأهمية هذا الشرق بكل ما يحوي من شرائح ثقافية-تاريخية-تراثية-دينية،‮ ‬واهتم أيضا ليف تولستوي بالثقافة العربية والدين الإسلامي،‮ ‬فقد تجاوز جوجول كل هؤلاء وخرج من‮ "‬معطفه‮" ‬الروسي إلي رحابة تحليل الذات العربية الحاكمة في واحدة من أهم المراحل التاريخية وأخصبها وأكثرها جدلا واختلافا‮. ‬وبما أن جوجول لم يكن مجرد كاتب مناسبات أو مجاملات،‮ ‬أو كاتب عابر،‮ ‬فقد أمسك بـ‮ "‬مشرط‮" ‬الجراح مُشَرِّحا واحدة من أهم شخصيات تلك الفترة جدلا‮. ‬وبصرف النظر عن الاختلاف أو الاتفاق مع ما طرحه جوجول منذ ما يقرب من قرن ونصف،‮ ‬وبغض النظر أيضا عن العديد من الآراء ووجهات النظر التي تكشف أن جوجول كان بعيد نسبيا عن بعض التفاصيل الهامة،‮ ‬إلا أنه في نهاية الأمر كان كاتبا روسيا مسيحيا متدينا،‮ ‬وفي ذات الوقت تمكن بعبقرية فذة من تناول وتشريح حقبة تاريخية،‮ ‬وشخصية هامة،‮ ‬في تاريخ ما يطلق عليه العرب‮ "‬الحضارة العربية الإسلامية‮". ‬من هنا تحديدا لم يكن‮ ‬غريبا علي هذا الأديب الكاتب المفكر أن يضع عنوان‮ "‬الخليفة المأمون-لمحة تاريخية‮"‬،‮ ‬وهو العنوان الأصلي لمقال جوجول‮.‬
جوجول يكتب عن المأمون‮:‬ المأمون الخليفة الذي مات دون أن‮ ‬يفهم شعبه أو‮ ‬يفهمه شعبه
لم يحدث أن تسلم مقاليد الأمور في زمن كانت فيه الدولة في أوج عظمتها وقمة مجدها كما حدث مع الخليفة المأمون‮. ‬كانت الخلافة العباسية العظيمة آنذاك قد امتدت إلي كل أصقاع العالم القديم،‮ ‬فوصلت حدودها الشرقية إلي جنوب شرق آسيا لتنغلق علي الهند،‮ ‬وامتدت‮ ‬غربا بطول الساحل الأفريقي حتي جبل طارق‮. ‬وجالت بواخر أسطولها الضخم وصالت بحرية تامة عند شواطئ البحر الأبيض المتوسط‮. ‬وكانت بغداد،‮ ‬عاصمة هذه الإمبراطورية الجديدة،‮ ‬تنظر من أعلي إلي هذا العالم وهو مستعد للانصياع إلي أقل بادرة تصدر عنها‮. ‬وكانت بصري ونيسابور تنظران إلي بغداد وشعوب آسيا،‮ ‬التي اعتنقت الإسلام لتوها،‮ ‬تتهافت بحثا عن المعرفة في مدارسها‮. ‬أما دمشق فكانت لا تزال تتحف العالم بأجمل الأقمشة وأندرها،‮ ‬وتروي عطش أوروبا إلي السيوف الفولاذية التي لا يعرف أحد سر صناعتها سوي دمشق‮. ‬وبدأ الإنسان العربي يفكر كيف يمكن إقامة تلك الجنة التي وعده بها النبي في الحياة الأخري‮. ‬فبني القنوات اللانهائية لسحب الماء،‮ ‬وشيَّد القصور الفارهة،‮ ‬وزرع‮ ‬غابات النخيل التي تتدافع في أنحائها نوافير الماء العذب،‮ ‬وتتصاعد من زواياها أبخرة عطور الشرق‮. ‬كانت الأخلاق لا تزال عميقة الجذور في أعماق الإنسان،‮ ‬ولم يكن قد أصابها بعد الترف والبذخ بأمراض الحياة السياسية المعروفة‮. ‬وكانت أجزاء الإمبراطورية العظيمة-عالم محمد هذا-لا تزال مرتبطة بقوة تعود إلي جهود الخليفة هارون الرشيد،‮ ‬هذا الرجل البارع الذي استطاع أن يستوعب كل خصوصيات شعبه ومواهبه العديدة المتنوعة،‮ ‬لأنه لم يكن بالحاكم الفيلسوف أو العسكري أو الأديب،‮ ‬وإنما كان جميعهم في آن واحد‮. ‬بداية التنويرلقد تمكن هذا الخليفة من إدارة الحكم‮ ‬دون أن يترك لأية صفة من الصفات المذكورة فرصة ترجيح الميزان علي حساب‮ ‬غيرها‮. ‬ولذا استطاع أن يدخل التنوير الأجنبي إلي شعبه بتلك الدرجة التي تساعده علي تطوير خصائصه الذاتية‮. ‬وكان العرب في ذاك الحين قد تجاوزوا مرحلة التعصب والفتوحات،‮ ‬ولكنهم كانوا لا يزالون ممتلئين حماسة للدين،‮ ‬يسيرون علي تعاليمه،‮ ‬وتردد ألسنتهم سور القرآن بنفس الخشوع السابق‮. ‬لقد قام هارون الرشيد بزرع بذور الخوف في نفوس رجال الدولة وجعلهم يديرون شؤون البلاد بطريقة مثالية من دون تلكؤ لقناعتهم المطلقة بأن الرشيد يمكن أن يظهر أمامهم في أية لحظة‮. ‬أما أمراء المقاطعات والحكام المحليون،‮ ‬الذين جرت العادة أن يطمح كل منهم إلي الاستقلال عن الدولة الكبري ليحوز علي جزء خاص به يمارس عليه سيادته،‮ ‬فقد كانوا في خوف دائم من لقاء هذا الحاكم المطلق الذي لا يخفي عليه شيء والذي يمكن أن يظهر فجأة متخفيا في ثياب أخري،‮ ‬ليكشف نواياهم‮. ‬وكانت الدولة تسير دون قانون ولكن ضمن نظام ثابت ومحدد بفضل حكمة هارون الرشيد‮. ‬كان هذا هو حال الدولة عندما تسلم مقاليد الحكم فيها الخليفة المأمون،‮ ‬هذا الرجل الذي سجل التاريخ اسمه كواحد من أولئك الرجال القلائل الذين أغدقوا علي البشرية بأفضالهم‮. ‬المأمون-هذا الحاكم،‮ ‬الذي كان يطمح إلي تحويل دولة السياسة إلي دولة الإبداع،‮ ‬وهبه الله عقلا ثاقبا وطاقة دؤوبة علي الدراسة‮. ‬المأمون-ذلك الرجل النبيل والذي لا حدود لنبله،‮ ‬ولا طموح لديه سوي السعي نحو الحقيقة‮.. ‬العاشق للعلم والذي لا ينتظر من معشوقه مكرمة،‮ ‬لأنه فقط،‮ ‬وفقط أَحَبَّه ومنحه ذاته بعاطفة جموحة لا حدود لها،‮ ‬ومن دون التفكير في الحسابات والأهداف‮. ‬كان العرب في ذاك الوقت قد اكتشفوا أرسطو لتوهم‮. ‬غير أن هذا الفيلسوف الإغريقي الذي يتميز تفكيره بالدقة الرياضية لم يستطع التواؤم من الخيال العربي‮: ‬السريع جدا،‮ ‬والرحب جدا،‮ ‬والشرقي جدا‮. ‬ولكن العلماء العرب عكفوا بدأب وإصرار عليه إلي أن تمكنوا من اعتياد شكليته ودقته،‮ ‬وظلوا يتابعون العمل علي مؤلفات أرسطو‮. ‬وبالتالي كانت لنتائج أرسطو الفكرية،‮ ‬وللنظام الذي أجاب فيه علي التساؤلات التي كانت تتوهج في ذهن العربي،‮ ‬صورا متفرقة من دون أن يتمكن من تجميعها في لوحة شمولية كي يمكنه الإجابة عليها‮. ‬كانت لنتائج أرسطو وقع السحر في نفوس العلماء العرب ومعهم المأمون الممتلئ حماسة للتنوير،‮ ‬والذي تربي علي هؤلاء العلماء،‮ ‬وبذل كل ما بوسعه لكي يُدْخِل هذا العالم الإغريقي الغريب إلي عالم أمته‮. ‬جمهورية حاملي المعرفةوهكذا فتحت بغداد ذراعيها برحابة‮ ‬لاستقبال كل العقول المتنورة في العالم كله‮. ‬وأغدق الخليفة عطاياه علي كل من حصل علي درجة علمية أيا كانت،‮ ‬وأيا كان دينه،‮ ‬ومهما بلغ‮ ‬عمق تناقضاته الداخلية‮. ‬وكان أكثر من حمل المعرفة إلي بغداد هم أولئك الذين لا يزالون يحملون في أعماقهم بقايا الوثنية المتشحة بالأشكال المسيحية،‮ ‬وغيرهم من أتباع الإفلاطونية الجديدة بعد أن‮ ‬غادروا القسطنطينية الغارقة في جدل عقيم حول العقيدة المسيحية‮. ‬وتحولت بغداد إلي جمهورية تضمم حاملي جميع أشكال المعرفة بمختلف آرائهم‮. ‬ويجلس المأمون متربعا علي عرشه يستمع إلي مناظرات العلماء،‮ ‬فتنساب موسيقاها إلي روحه لتروي عطشه المعرفي‮. ‬وما كان من حكام المقاطعات وأمرائها إلا أن حذوا حذو خليفتهم‮. ‬وأصيب كبار رجال الدولة بـ‮ "‬منومانيا الأدب‮". ‬وأخذ كل أمير أو وزير يسعي إلي اجتذاب العلماء إلي بلاطه من الخارج،‮ ‬ولم يعد يخفي علي أحد أن تصريف أمور الدولة صار بالنسبة لرجال السياسة في المرتبة الثانية‮. ‬وأخذ الحكام يسلمون قيادة الأمور إلي نوابهم ومحظييهم الذين كانوا في كثير من الأحيان من الجهلة الذين حصلوا علي مواقعهم بسبب لجاجتهم‮. ‬وكان لابد في نهاية الأمر أن ينعكس ذلك الوضع سلبا علي الناس ليرتد بعد ذلك بالنقمة علي رؤوس الحكام‮. ‬فتلك الجموع من الفلاسفة النظريين والشعراء الذين يحتلون مواقع حكومية سياسية لا يستطيعون توفير الحزم اللازم لإدارة شؤون الدولة،‮ ‬لأن مجال عملهم يختلف تماما،‮ ‬وكانوا يستفيدون من الحظوة الممنوحة لهم ليتابعوا بحوثهم الخاصة‮. ‬ومن الممكن بالطبع استثناء بعض الشعراء الكبار الذين استطاعوا أن يجمعوا بين الفلسفة وعلم التاريخ،‮ ‬وتمكنوا من سبر أغوار الطبيعة والإنسان،‮ ‬واستوعبوا الماضي،‮ ‬وقدروا ما يمكن أن يحدث في المستقبل،‮ ‬وكان صوتهم في الوقت نفسه يصل إلي الشعب‮. ‬غير أن أولئك كانوا قلة قليلة من الكهنة علي مذبح الفكر‮. ‬وكان رجل السلطة الحكيم يكتفي بالتحدث إليهم،‮ ‬ويحرص علي حياتهم،‮ ‬ويخشي أن يثقل عليهم بأعباء الحكم،‮ ‬ولكنه كان يدعوهم إلي تلك المجالس التي تناقش أهم القضايا،‮ ‬نظرا لأنهم كانوا يستطيعون سبر أغوار النفس البشرية‮. ‬الفيلسوف النظريكان المأمون-هذا الرجل النبيل-يطمح‮ ‬بشدة إلي إسعاد رعيته،‮ ‬ويعرف أن الطريق الوحيد إلي ذلك هو العلم الذي يهدف إلي تطوير الإنسان‮. ‬لذا حاول بكل ما أوتي من قوة أن يرغم شعبه علي قبول مبادئ التنوير التي أدخلها‮. ‬غير أن هذا التنوير كان أقل ما يمكن أن يلائم خصائص الإنسان العربي الطبيعية وخياله الجامح‮. ‬كانت الأفكار المسيحية القادمة من الخارج قد فقدت حتي ذلك الحين طاقتها الملهمة التي كانت عليها عند بداية التوحيد،‮ ‬وتحولت إلي كم هائل من المفردات‮. ‬وعلي الرغم من أن هذه الأفكار تمكنت من أن تضئ العلوم بنور‮ ‬غريب،‮ ‬إلا إنها لم تتمكن من الالتحام معها-أي العلوم-لتشكل وحدة متناغمة،‮ ‬بل يمكن القول إنها قضت عليها بسب طغيانها‮. ‬تلك الأفكار الغريبة التي حملها هؤلاء جاءت مناقضة لطبيعة الرجل العربي النارية،‮ ‬فغرقت في خياله نتائج العقل البارد هذه‮. ‬هذا الشعب العجيب لم يكن يسير في بطئ علي طريق التطور،‮ ‬بل كان يتقدم علي الطريق طائرا‮. ‬وتبدت عبقريته في كل المجالات‮: ‬في الحرب،‮ ‬والتجارة،‮ ‬والفنون،‮ ‬والصناعة،‮ ‬والشعر،‮ ‬ذلك الشعر الشرقي الذي يخلب الألباب‮. ‬وتفجرت قصائده،‮ ‬تلك القصائد التي لم يعرف تاريخ البشرية مثلها حتي اليوم،‮ ‬غنية مشرقة فائقة التميز والغرابة‮. ‬وكان يبدو أن هذا الشعب سوف يصل إلي الكمال الذي لم يبلغه أحد من قبل‮. ‬ولكن المأمون عجز عن فهمه،‮ ‬وتجاهل أمرا لا يمكن الاستهانة به،‮ ‬ألا وهو أن الثقافة يجب أن تُستعار بدرجة ملائمة لتطور الخصائص الذاتية للشعب لا أكثر ولا أقل‮. ‬وأن الشعب يتطور وفقا لعفويته القومية‮. ‬وهكذا أحاط سياج التنوير العاقر بتلك الميادين التي تبدت فيها بطولات الإنسان العربي‮. ‬فمشاعر‮ "‬الكوسموبوليتان‮" ‬التي فاضت بها روح المأمون تجاوزت الحدود،‮ ‬وجعلته يفتح أبواب إمبراطوريته أمام جميع العلماء من كل حدب وصوب‮. ‬وأيقظت الامتيازات التي منحها الخليفة للمسيحيين مشاعر الكراهية في أبناء أمته،‮ ‬وتأججت مشاعر الاحتقار لكل ما يحمله هؤلاء بصرف النظر عن كونه صالحا أو طالحا،‮ ‬وغابت مشاعر الحب التي كان يحملها الشعب لخليفته،‮ ‬لأن المأمون كان فيلسوفا نظريا أكثر منه فيلسوفا عمليا،‮ ‬كما ينبغي للحاكم أن يكون‮. ‬لم يكن المأمون يعرف عن حياة شعبه إلا ما سمعه من الآخرين من حكايات‮. ‬ولم تكن لديه خبرة شخصية مثلما كان الأمر مع أبيه هارون الرشيد‮. ‬ففي أشكال الحكم الآسيوية،‮ ‬التي لا يحكمها القانون،‮ ‬تقع أعباء الإدارة كلها علي كاهل الحاكم المطلق‮. ‬لذا يجب أن يتميز بنشاط فائق،‮ ‬ويبقي متنبها علي الدوام لكل صغيرة وكبيرة،‮ ‬لا يمنح ثقته لأحد،‮ ‬وعينه كعين أرجوس الأسطوري تستطيع أن تري كل ما يجري في جميع الاتجاهات‮. ‬فهو إن سها لحظة،‮ ‬تكاثر عدد ولاته الذين يتمتعون بصلاحيات مطلقة،‮ ‬وامتلأت الدولة بعدد لا يحصي من الطغاة الصغار‮. ‬لكن المأمون عاش في بغداد كما لو إنه صاغها بنفسه مدينة للإلهام بعيدا عن السياسة‮. ‬ولم يكن بإمكان المسيحيين الغرباء-الذين بدءوا يتخلون في شؤون الحكم-أن يفهموا روح الشعب ويعرفوا عاداته‮. ‬كما أن انتماءهم إلي دين آخر لم يكن يحتمل بالنسبة للعربي الذي كان لا يزال متحمسا متعصبا لدينه‮. ‬وهكذا،‮ ‬ففي الوقت الذي كانت فيه ألسنة العلماء تمدح المأمون،‮ ‬وبينما كان كرمه وحسن ضيافته يستقطب إلي شواطئ سوريا كافة أجناس البشر،‮ ‬كانت سلطته في المقاطعات آخذة في الأفول‮. ‬ولم يعد اسمه يعني الكثير لسكان المناطق البعيدة الذين لم يروه يوما‮. ‬وضعفت قوة الدولة العسكرية‮. ‬أما أشعة التنوير التي انطلقت من المركز‮ (‬بغداد‮) ‬فقد كانت قوتها تخبو تدريجيا كلما اتجهت نحو حدود الإمبراطورية النائية والتي كان العرب عندها لا يزالون يحتفظون بتعصب الأزمنة الماضية،‮ ‬والجنود علي أهبة الاستعداد في أية لحظة لنشر دين محمد بالنار والسيف‮. ‬وإذ شعر أمراء تلك المناطق بضعف الصلة مع بغداد،‮ ‬بدءوا يفكرون في الاستقلال عنها،‮ ‬ورأي المأمون بأم عينيه كيف تقلصت حدوده،‮ ‬فانشقت عليه بلاد فارس والهند والمقاطعات الأفريقية الأبعد‮. ‬الكتاب في‮ ‬يد والسلاح‮ ‬في الأخريربما كان من الممكن إصلاح هذا الاتجاه‮ ‬الخاطيء في إدارة شؤون الدولة،‮ ‬ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد‮. ‬لقد حاول المأمون أن يكون مصلحا دينيا،‮ ‬فقرر أن يقوم بإصلاح‮ "‬القرآن‮" ‬في الوقت الذي كان فيه جميع رجال الدولة الأقل شأنا،‮ ‬والشعب كله بلا استثناء يؤمنون إيمانا مطلقا بأن القرآن مُنَزَّل من عند الله،‮ ‬وأي تشكيك في هذا،‮ ‬مهما قل شأنه،‮ ‬هو جريمة لا تغتفر‮. ‬لم يستطع عقل المأمون نصف الإغريقي أن يدرك حماس رعيته الذي لا حدود له،‮ ‬بل اعتبر أن الخطوة الأولي في إعادة التنوير إنما هي في القضاء علي هذا الحماس الذي يمثل جوهر الروح العربية،‮ ‬ومحرك تطورها الذي تمخضت عنه هذه الحقبة التاريخية الفذة‮. ‬وبالتالي فإن أية محاولة لزعزعته كان من شأنها هدم أركان الدولة‮. ‬لقد تجرأ المأمون واعترض علي تلك الجنة التي وعد بها النبي شعبه،‮ ‬والتي أسبغ‮ ‬عليها كل صفات الحياة الحسية‮. ‬لم يأخذ المأمون بعين الاعتبار أن هذه الجنة بالنسبة للمسلم إنما هي واحة عظيمة في صحراء حياته‮. ‬وأن الأمل في هذه الجنة بالذات يُمَكِّن العربي الحسي من تحمل الفقر والاضطهاد،‮ ‬ويساعده علي خنق الحسد في روحه لدي رؤيته لأولئك الغارقين في النعيم،‮ ‬ويصور له خياله الحسي الصارخ أنه هو أيضا سيكون ذات يوم محاطا بالجواري وسيغرق في نعيم يفوق كل ما هو ممكن علي هذه الأرض الزائلة‮. ‬ليس من الصعب إذن أن نتخيل درجة الاستياء التي أثارها انتشار الأخبار عن محاولات المأمون الإصلاحية،‮ ‬وكيف كانت ردود الأفعال علي ذلك بعد أن أثارت حفيظة الشعب واستفزته كل تلك الامتيازات الهائلة التي حصل عليها المسيحيون،‮ ‬وتَعَلُّق الخليفة بهم‮. ‬فاتُّهِمَ‮ ‬المأمون بالهرطقة،‮ ‬وبالتالي تمكنت تلك الفئة الدينية الحريصة علي تنفيذ القرآن بحذافيره من دفع المأمون إلي استخدام السلاح‮. ‬وهكذا أشهر الخليفة-هذا الرجل النبيل المليء حبا لرعيته-سلاحه في وجه شعبه‮. ‬فأيقظ من جديد التعصب لدي العربي،‮ ‬ولكنه كان تعصبا من نوع جديد،‮ ‬لم يكن ذاك التعصب الذي جعل سكان الجزيرة يحملون راية النور ويندفعون كتلة واحدة إلي الأمام،‮ ‬إنما تعصب رجعي مزق تلك الوحدة وزرع بذور الشقاق في أركان الدولة الواحدة،‮ ‬وأيقظ مشاعر العربي البدائية،‮ ‬وبث سموم الكراهية في نفوس المسلمين البواسل،‮ ‬وخلق العديد من الفئات الدينية المتطرفة،‮ ‬وكانت فرقة القرامطة أكثرها تطرفا واستمرت في طغيانها فترة طويلة من الزمن‮. ‬هكذا انتهي المأمون وهو يغدق بيد كريمة علي أعمال الخير والفنون والمدارس والعمال،‮ ‬ويقتل باليد الأخري المدافعين عن الدين الحنيف،‮ ‬فانتهي في زمن اجتاحت فيه الاضطرابات السياسية البلاد‮. ‬ومضي من دون أن يفهم شعبه،‮ ‬ومن دون أن يفهمه شعبه‮. ‬فهو بالرغم من رغبته الشديدة في صنع الخير،‮ ‬وحبه المخلص اللامحدود للعلم،‮ ‬كان ومن دون أن يقصد أحد الأسباب الرئيسية التي سارعت بانهيار الإمبراطورية العربية‮. ‬

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق