السبت، 27 يونيو 2009

في ذكرى الشيخ إمام عيسى

صباح الخيرات يا عم إمام
الغائب في ذكرى حضوره العاطر


بقلم :د. أشرف الصباغ

إذا تحدثنا عن فن الموسيقى والغناء المصري، ربما تكون حارة "خوش قدم" أو "حوش آدم"، كما يحلو لنا أن نسميها، إحدى أهم العلامات في تاريخ الموسيقى في مصر: موسيقى البسطاء والشرائح المهمشة التي تمثل الغالبية العظمي من المصريين. في هذه الحارة عاش (مغنى الشعب المصري) إمام عيسى ما يقرب من ثلاثين عاما برفقة الفنان التشيكلي محمد علي والشاعر أحمد فؤاد نجم، ومن حولهم تجمع مثقفو مصر والعالم العربي والمهتمون بتجربة إمام عيسى الموسيقية من الأجانب. وقبل هؤلاء وأولئك كان سكان الحارة والحارات والأحياء المجاورة يعرفون إمام ويحيطون به ويرددون ألحانه وأغانيه.
في بداية انطلاقة إمام عيسى الموسيقية سيطرت عليه النغمة الدينية-الصوفية التي تواكبت مع الكلمات العاطفية وكان ذلك طبيعياً بحكم ارتباط إمام عيسى في بداياته بالموالد وحلقات الذكر وقراءة القرآن في المساجد. ولكنه كفنان حقيقي كان يمتلك حسا دراميا الأمر الذي تضافر بشكل سريع مع وعيه بهموم البسطاء ومن هنا كانت البداية الحقيقية لفنان بسيط تمكن بوعي وحرفية أن يضع أقدامه على طريق خالد الذكر سيد درويش. ولعلنا نلمح هذا الحس في أغاني مثل (قيدوا شمعة) و(المولد) و(جيفارا مات)� الخ
لقد لعب المكان دورا هاما في فن إمام عيسى لأن النشأة في (أبو النمرس) والحياة في شوارع وحواري القاهرة القديمة ثم الاستقرار في غرفة متواضعة بحارة (حوش آدم) كل ذلك إلى جوار وعيه بالهموم اليومية البسيطة التي تشكل القضايا الكبرى للبسطاء والمهمشين جعل من إمام عيسى الحفيد الشرعي لسيد درويش. من هنا ارتكز الشيخ إمام عيسى إلى القاعدة الموسيقية الدرويشية لينطلق بالموسيقى العربية إلى أفق آخر يعبر بحق عن ثقافة أخرى مغايرة: ثقافة البسطاء من أغلبية المصريين، تلك الثقافة المهمشة التي تثير سخرية الأقلية واحتقارها.
دور يا كلام على كيفك دور
خلي بلدنا تعوم ف النور
إرمي الكلمة في بطن الضلمة
تحبل سلمي وتولد نور��
�����عم إمام عنده كلام
ومسوَّح ف بلاد الناس
من شوق نوله يغزل قوله
ويغني مرفوع الراس ..
( 1 )
وُلِدَ إمام عيسى في 2 يوليو عام 1918 ببلدة "أبو النمرس" بمحافظة الجيزة، قبل رحيل خالد الذكر سيد درويش بخمس سنوات وشهرين وثلاثة عشر يوما، أي في 15 سبتمبر عام 1923. وعليه فهناك عدة تساؤلات تطرح نفسها من قبيل التأمل وليس التداعي: هل تقاطُع البدايات والنهايات يمكنه أن يوحى بشيء ما؟ هل انتظر سيد درويش شيئا ما، أو أحدا ما ليسلمه العهد والأمانة؟ أم أن الذين" تخلصوا" من سيد درويش لم يدركوا مغزى التعاويذ المصرية؟ لم يدركوا معنى الكلمة والولادة في الأساطير المصرية القديمة، لم يدركوا دلالة "الكلمة" وأبعادها في الكتب الدينية المختلفة، لم يفهموا مغزاها في الممارسات الطقوسية والأسطورية ليس فقط لدى المصريين، وإنما لدى كل شعوب الأرض قديما وحديثا؟!لقد أدرك سيد درويش بعبقرية فذة فكرة أن التعبير الموسيقى لا يكون صادقا وكاملا إلا إذا انطوى التأليف الموسيقى على أبعاد ثلاثة بصرف النظر عما إذا كان آليا أو غنائيا:
1-البعد النغمي-المسار اللحني.
2-البعد الإيقاعي-الوحدة الزمنية وقيمتها من حيث النبر.
3-بعد الانسجام والتوافق النغمي المسموع.
من البعدين الأول والثاني تتكون الألحان الأفقية المُسطحة. أما البعد الثالث فهو الذي يُعَمِّق ويجسد تلك الألحان الأفقية، ويحدث ذلك غالبا في شكل مركبات/تآلفات رأسية، وهو ما يسمـي بالهارموني. ومن الممكن أن يأتي البعد الثالث-المُعَمَّق والمجسد للألحان الأفقية-على شكل ألحان أفقية أخرى تتباين لحنيا، وتتردد وترتبط هارمونيا مع الألحان الأفقية الأصلية، وهو ما يسمى بالكوانترابنط. وعموما لن نتوغل في دور البعد الثالث سواء كان هارمونيا أو كوانترابنطيا في تعدد الأصوات والبوليفونية. وما يهمنا هنا أن سيد درويش من خلال تجربته تمكن من التوصل إلى ذلك، ومن ثم لعب دوره الرائد في تأسيس نقلة نوعية في الموسيقى العربية. أما الشيخ إمام عيسي فقد ارتكز بطبيعة الحال إلى القاعدة الدرويشية لينطلق إلى أفق أرحب (لن يحسم هذا الرأي إلا بجمع تراث الشيخ إمام عيسى وتحليله تحليلا علميا) حيث تمكن من صياغة معادلة تكاملية بين الكلمة واللحن والأداء. وهذه معادلة تكاملية كلاسيكية بالمعنى الرياضي، أي التكامل على ثلاثة أبعاد: الكلمة واللحن والأداء. وقد توصل إمام عيسى إلى صياغة هذه المعادلة الصعبة بعد انقطاع وتراجع وهبوط منذ وفاة سيد درويش وحتى قيام ثورة يوليو 1952، أو بالأحرى عندما تم تجميع تراث سيد درويش بعد قيام الثورة بخمسة عشر عاما-أي بعد النكسة. وإمعانا من إمام عيسى في تأصيل معادلته وترسيخها، فقد قام بإضافة بعد رابع-الزمن. وبذلك تكون المعادلة التكاملية الرياضية قد اكتملت لتصبح معادلة تكاملية حديثة بمتغيرات أربعة، ولتتشكل أمامنا لوحة فنية موسيقية كاملة بعناصر أربعة: كلمة-لحن-أداء-زمن. ولكن أي زمن؟ هل هو زمن المغنى؟ أم الزمن الممتد منذ البدايات الأولى؟ أم تلك الفترة الزمنية التي تقاطع فيها هذان الزمنان مع زمن الأحداث التي عاشها المغني/المؤلف نفسه؟ وربما هو ذلك الزمن الذي يفعل فعله في المقدس ليجعله أرضيا وعاديا وحميميا، ولكن مع ذلك سرمديا؟ هذه التساؤلات ليست بالطبع مجرد تداعيات، ولكنها في صلب العملية الإبداعية الموسيقية وعلى نحو علمي، إذ أن تغلغل الأبعاد اللحنية-وخاصة البعد الثالث-في الماضي والحاضر والمستقبل هو في حد ذاته تعبير زمني علمي بالمفهوم الفيزيائي الحديث جدا (وذلك بداية من مفاهيم الميكانيكا الكمية في الثلاثينات ثم النظرية النسبية وانتهاء بما يسمى بالزمن الافتراضي واختراق حاجز الزمن المستند إلى اكتشاف جسيمات أوليه في غاية الأهمية غير الفوتون) يمكنه أن ينتج شيئا يسمى بأصالة اللحن وصدق التعبير، وهو ما يمكن الارتكاز عليه لإنتاج دراما موسيقية، بل وتوزيع تلك الصياغات في أشكال موسيقية حديثة، أي ببساطة تشكيل مدرسة موسيقية خاصة بنا تستند إلى المنجز العلمي/الفني الحديث. وإذا كان سيد درويش قد أدرك بعبقرية فذة العلاقة بين اللحن والمقطع الشعري موسيقيا، ومن ثم برزت جهوده في تأسيس ما يسمى بالقصيدة أو صورها على المقامات العربية، فالشيخ إمام عيسى قد قام على المستوى التقني بتطوير ذلك إذ أن تجربته قد اشتملت على بُعد فني/تقني أصبح بفعل الزمن والجهد متقدما نسبيا وذلك على مستوى الصياغة الشعرية والجملة الموسيقية بكل ما تحمله من شحنات هائلة بداية من تلحين الكلمات والجمل الموسيقية البسيطة وحتى التراكيب المعقدة للجمل الموسيقية. هذا بالطبع إلى جانب أن الشيخ إمام لم يلجأ إطلاقا في أدائه إلى حلاوة الصوت أو التداعي والحزن، بل اعتمد على خشونة الصوت وقوَّته العذبة الصافية. وإذا كان هناك ندبا وتعديدا-من حيث المقامات انعكس بدوره على الأداء-في أعمال الشيخ إمام عيسي، فهي لم تتأت من الرغبة في اللعب على وجدان المستمع/المتلقي ومشاعره، بل هي متأتية بالدرجة الأولى من وجودها في التراث على مستوى الكلمة والمقام الموسيقى وطبيعة كل من المبدع والمتلقي، ومن ثم في الوجدان الجماعي الأمر الذي أدى بالشيخ إمام إلى عدم الاستغناء عنها، وإنما دفعه إلى التعامل معها وإدارتها بذكاء يعلن عن موهبة خلاقة وقدرة عظيمة على التعامل مع المقامات العربية، وهو ما أطلقنا عليه منذ قليــل "المستوى التقني". وهو نفس الشيء الذي كان يجعله يخرج من مقام "صبا"-على سبيل المثال لا الحصر-ومن الحزن والغم والعذابات الذاتية إلى القوة والرفض، وكثيرا ما قام بالتنويع (لحنا وأداء) على المقام الواحد متنقلا في جملة شعرية/موسيقية واحدة من الحزن إلى القوة والثورة إلى السخرية والتهكم، بل وأحيانا إلى التنكيت، وكأنه ببساطة يغنى أفكار المتلقي ويصيغها من جديد بلغة مشتركة تُعَبِّر وتشكل في آن واحد عن أحلامه وطموحاته، ومن أجل ذلك تحرك على عدة محاور هامة تتلخص في:
1-تعامل مع الموسيقى من موقع المؤلف الموسيقي ولم يصنع جملا موسيقية لقصائد شعرية بالمعنى السائد والمبتذل، والمقصود هنا أنه إلى جانب كونه مؤلفا موسيقيا، قام بطبيعة الحال بتأليف موسيقى لقصائد شعرية ولكنه توخى فيها الالتزام بمشروعه الموسيقى والحفاظ على العناصر الأساسية للصورة الشعرية/الموسيقية.
2-صاغ عَالَما صوتيا تَشَكَّلَ من بعدين: موسيقى وغنائي انبثقت منهما وحدة فنية متكاملة لها خصوصيتها التي يمكن أن تصبح قاعدة ارتكاز لتجارب أرقى تقنيا.

( 2 )
لا شك أن ثورة يوليو 1952 قد جاءت بمبادئ وطنية انعكست في مجملها، وفي حدود معينة، على جميع جوانب الحياة والأنشطة آنذاك. وبالتالي على الفن بشكل عام الأمر الذي جعل الغالبية العظمى تلتف حولها، ويقف كل بأداته إلى جوارها. من هنا طرحت الثورة خطابا اجتماعيا/سياسيا/وطنيا مغايرا اقترن في ذات الوقت بمشروع قومي/وطني، ورافق كل ذلك خطاب شعري/موسيقي جديد. بذلك تكاثفت الجهود-نظريا-على العودة إلى الأمام، أي على طريق البحث والتنقيب وإحياء التراث بعد اختفاء المبادرة الوطنية منذ وفاة سيد درويش. ولكن النية/المبادرة الوطنية النظرية وحدها لا تكفى، إذ تم استخدام تراث سيد درويش بشكل أحادى يخدم مجموعة من الأهداف الأولية التي يجب أن تتطور في المستقبل ( مثل الأهداف والمبادئ السياسية التي طرحتها الثورة ولم تتحقق بشكل كامل نظرا لأسبـاب أخرى). وقد ورد على لسان وزير الثقافة الأسبق الدكتور ثروت عكاشة: "� كان سيد درويش نتاجا عبقريا ليقظة الشعب العربي في مصر عام 1919"، ومن الواضح بطبيعة الحال أن العبارة تنطوي على بُعد سياسي كتوجه أو كخطاب للسلطة آنذاك حيث يتم الربط بين سيد درويش وثورة 1919 بشكل قسري دون مراعاة الجوانب الأخرى التي تشتمل عليها تلك العلاقة التي هي أكبر من مجرد علاقة بين فنان الشعب وثورة لا أحد ينكر أهميتها. وبالتالي عندما يتم اجتزاء العلاقات، ومحاولات لربط القسري الظرفي المشروط بين أحداث من أجل استثمارها في قضايا ربما تكون مرحلية دون الالتفات إلى توسيع أبعاد تلك العلاقات وتعميقها، يمكنه أن يؤدى إن عاجلا أو آجلا إلى كارثة. فعندما اختفت المبادرة الوطنية لمدة 29 عاما-منذ وفاة خالد الذكر وقيام الثورة-حدثت فترة انقطاع إلا من محاولات فردية متواضعة للغاية الأمر الذي أدى إلى ضياع جزء كبير من تراث سيد درويش، ونؤكد هنا أن الموضوع هو ضياع وفقدان لأجزاء كثيرة من تراث خالد الذكر، وليس انهيار مشروع سيد درويش كما يحلو للبعض أن يسميه. وقد أدى ذلك إلى استخدام ما تبقى من هذا التراث في مآرب أخرى شبيهة بالمؤامرة، ومن ثم تراجعت الموسيقى إلى ما قبل الدور الفعَّال الذي بدأه سيد درويش. وقد حاولت الثورة أن تتعامل مع هذا التراث في إطار خطابها القومي/الوطني المطروح، إلا أن التعامل جاء نظريا محضا بارتكازه ليس فقط على التجربة الأصلية وما نتج عنها من محاولات فردية، وإنما باستخدام الانحرافات والتحريفات التي بدت مستندة إلى تراث سيد درويش، وبالتالي ظهرت الأغاني التراثية "السياحية" والعاطفية والثورية، والأغاني التي تبجل الفرد وتؤلهه والتي كانت في مجملها مرتبطة بألحان بسيطة سطحية. خلاصة القول أن الإنتلجنسيا الفنية (وهى التي يُطلَق عليها في الأدبيات الإنتلجنسيا المأجورة رغم عدم اتفاقنا كليا مع هذا التعميم) قد انحازت بكل قواها إلى الثورة الجديدة وخطابها الفني "الثورى"، وبالتالي تبنت وجهات نظر النظـام الحاكم، وتحولت الأغاني الشعبية والجماعية بألحانها وبطابعها الدرويشي إلي أغاني وطنية يغلب عليها الطابع الدعائي وتمجيد الفرد. وجاءت نكسة 1967 لتكشف العورات، وتشكل ضربة قاضية لكل ما مضى من توجهات سياسية واجتماعية وفنية. وأفاق الجميع على خواء الشعارات الوطنية، واكتشفوا أن الموضوع كان مجرد حالة ثورية حماسية أدت في مجملها إلى نكسة مروعة ليس فقط للنظام الحاكم والجيش العسكري، وإنما إلى هزيمة الحلم الكبير، والشعار الاجتماعي/الوطني، والنغمة الموسيقية التي ارتبطت أيما ارتباط بالأغاني المكتوبة خصيصا للنظام ورموزه، أو لِما كان يود تكريسه من مشاعر وأحاسيس وأفكار. من هنا أطلق البعض على ظهور الشيخ إمام عيسى أوصافا في غاية الغرابة: ظاهرة إمام/نجم، ظاهرة الأغاني السياسية، الأغاني الثورية، بل وتم تصنيفها على أنها ظاهرة مرتبطـة بالنكسة، أو وليدة الهزيمة والانهيار متناسين أن الشيخ إمام عيسى جاء إلى القاهرة وبدأ مشواره الفني عام 1962، وتتلمذ على الشيخ درويش الحريري، ودرس أصول الموشح الأندلسي، والتقى بالشيخ زكريا أحمد ومحمود صبح والشيخ على محمود، وارتكز قبل كل شيء على تراث سيد درويش، وبدأ أيضا خطابه الموسيقى المغاير لخطاب السلطة في الستينيات قبل نكسة 1967. أي إن إمام عيسى لم يولد (كظاهرة مع نجم) من رحم الهزيمة، وإنما ولد قبلها مثلما ولد سيد درويش فنيا قبل ثورة 1919. أما البروز أو الانتشار فهذا موضوع آخر له شروطه وظروفه ومهامه. وقد برزت أغاني إمام عيسى، ربما، من جراء التناقض الحاد الذي تولد بسبب الهزيمة حيث حاول النظام آنذاك أن يمارس لعبة تغييب الوعي مستخدما نفس الآليات التي استخدمها في بداية الثورة من أجل إعادة الوعي، فهجمت الأغاني العاطفية المبتذلة، والأغاني الشعبية "السياحية" الساذجة والتافهة، وبسبب هذا التناقض تحديدا انتشرت أغاني إمام عيسى من جراء الرغبة المضادة لرغبة السلطة، وبخطاب مضاد أيضا لخطابها وخصوصا بعد الهزيمة. وللأمانة فقد كانت تلك التجربة، وذاك الخطاب موجودين في مسيرة إمام عيسى قبل الهزيمة، وذلك من منطلق الإرادة المضادة لانحراف خطاب النظام الحاكم الذي بدأت تناقضاته الداخلية تقربه مـن حتفه. أما الأمر الثاني والهام في ترسيخ أكذوبة إمام/نجم، فهو انهزام وخيبة أمل المثقفين بشكل عام، والمثقفين اليساريين على وجه الخصوص، وبحثهم عن وسائل للتماسك وراحة الضمير. من هنا ظهر وصف أو مسمى إمام/نجم بحسن نية ونتيجة لانكسار وتردى حقيقيين لدى المثقفين متناسين أن إمام عيسى قد تعامل مع الشعراء المصريين والعرب مثل فؤاد قاعود وفدوى طوقان وزكى عمر وسميح القاسم وزين العابدين فؤاد وتوفيق زياد ونجيب شهاب الدين وأحمد نجم وفؤاد حداد وعفاف العقاد وعبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب، وشبان تونسيين، وتعامل مع التراث العربي، والشعبي، والعربي في الأندلس.
إن تجربة إمام/نجم واحدة ضمن تجارب عديدة، ولكن الاندفاع الشرس للمثقفين اليساريين من جراء انهيار الحلم الكبير، وبهدف إيذاء الذات لم يعطهم الفرصة لالتقاط الأنفاس ومراجعة المصطلحات. كانوا فى أَمَسِ الحاجة إلى بديل سريع لاستعادة التوازن على الأقل، وبالتالي شكلوا عبئا ثقيلا وخطيرا على التجربة الفنية للشيخ إمام عيسى. وهذا بالطبع أحد الأسباب الهامة التي ساهمت في عزل التجربة عن التجربة الفنية في عمومها آنذاك وبعد ذلك أيضا. هذا إلى جانب حصار السلطة السياسية وإغلاق أجهزة إعلامها أمام التجربة، بل ومصادرة حتى الأشرطة البسيطة التي كانت تُسَجَّل في محاولات فردية للحفاظ على تراث إمام عيسى. لقد كانت السلطة سواء في الستينات أو السبعينات، وحتى في الثمانينات على استعداد لتبني التجربة وفتح الأبواب أمامها، ولكن بشروطها هي الأمر الذي كان يمكنه أن يفرغها من أهم عناصرها التي تُشَكِّل جوهرها الأصلي. وفي هذا الإطار لا يمكننا تجاهل أو إغماض العيون عن تسلط الحركة اليسارية المصرية على التجربة ومحاولة الاستيلاء عليها أو الانتساب إليها. ومع ذلك فهذا لم يكن خطأ قاتلا بحكم ظروف كثيرة (ففي كل الأحوال يعود الفضل في اكتشاف إمام وتقديمه إلى جماهير الشعب البسيطة والمثقفين على حد سواء إلى الحركة اليسارية المصرية والمثقفين اليساريين تحديدا، ولولا ذلك لظل إمام عيسى مقرئا بسيطا للقرآن الكريم في المساجد والموالد والأعياد)، ولكن كارثة الصراع الداخلي للحركة اليسارية والوطنية بشكل عام هو الذي لعب الدور الأساسي في ذلك الحصار الذي يشبه الخنق، مما زاد من بُعد التجربة عن وسائل الإعلام حيث تم استخدامها بشكل ضيق ومحدود في نشاطات متفرقة لكل فصيل على حدة الأمر الذي كان يدفع إمام نفسه إلى رفض التعامل مع أجهزة الإعلام. هذا إلى جانب أن التجربة قد تم تصنيفها في المرحلة الناصرية، وبالتالي دخلت إلى المرحلة الساداتية جاهزة للرفض ومصبوغة بعلو الصوت والسب والضجيج والسفاهة (هذا طبعا من وجهة نظر مثقفي السلطة الجديدة، والإنتلجنسيا الصاعدة، ناهيك عن الخطأ الفادح لمثقفي الستينيات في إطلاقهم الأوصاف والمصطلحات التي ذكرناها آنفا). واستمرت السلطة في السبعينيات في ترصد التجربة وإجهاضها أولا بأول الأمر الذي أدى إلى التعامل مع فن إمام عيسى بدرجة لا تقل في خطورتها وتحريمها عن التعامل مع الممنوعات، في نفس الوقت الذي ظهرت فيه وانتشرت أغاني وأشعار وألحان ما أنزل الله بها من سلطان! والأدهي والأمر أن أجهزة الإعلام قد روَّجت لها بمساعدة الإنتلجنسيا المأجورة في ظل الانحطاط العام والكلي الذي تزامن مع حملة ضخمة لترويج المخدرات وبشكل لم يكن له مثيل في أية فترة من تاريخ مصر (وفى ظل حكومة وطنية!)
هنا يقفز سؤال آخر متعدد الأوجه والنوايا، وإذا كان يبدو أنه مرتبط بما يسمى ظاهرة إمام/نجم، فهو مرتبط أيضا بفكرة سيئة النية، ألا وهى ربط إمام بنجم وتكريس، بل وتأصيل مفهوم أنها مجرد علاقة عابرة ومحدودة بحكم الظرف السياسي وظروف أخرى منها السكن وإحالة كل ذلك إلى تثبيت أن تجربة الشيخ إمام عيسى قد أُجهِضَت وذهبت إلى حال سبيلها مثلما قيل أن مشروع سيد درويش قد انهار، على الرغم من أن الواقع يقول عكس ذلك بالنسبة للتجربتين ولتجارب أخرى ربما يتسع الوقت بعد ذلك لمعالجتها. إذن.. هل كان ظهور الشيخ إمام عيسى في هذه التجربة ضروريا وهاما؟ وإذا لم يظهر إمام عيسى في تلك التجربة، فهل كان من الممكن أن يظهر أي إمام آخر-أقصد أي شخص آخر؟ بالطبع نرى أن السؤال الثاني هو إجابة على السؤال الأول. نعم.. كان من الضروري واللازم أن يظهر إمام. وإن لم يظهر، فقد كان من الضروري أن يظهر أي شخص آخر. ومن ثم يعود السؤال ليبرز على نحو مغاير: إذن لماذا ظهر إمام عيسى تحديدا؟ وهنا نجيب ببساطة: مثلما ظهر سيد درويش. وإذا نحينا جانبا تلك الأوصاف العاطفية الجميلة مثل وصف "بطل" سنجد أن كلا من سيد درويش وإمام عيسى قد ظهر في زمنه وفي ظروفه، بمعنى أن أيا منهما لم يأت مبكرا أو متأخرا. وبالتالي كان ظهور سيد درويش في ظل شروط محددة قد أملى عليه مهاما محددة في إطار اختياراته، ومن ثم تجاورت لديه الأغاني الوطنية والشعارية، والطقاطيق الخفيفة الساخرة، وأحيانا الجنسية، وتجلت قدرته على مزج الألحان النابعة من التراث بالألحان الساخرة والمبكية، ومع ذلك فقد أدلى بدلوه ونفَّذَ نقلته النوعية العظيمة في الموسيقى العربية وتمكن من حل المعادلة الصعبة التي تجمع بين الهم الاجتماعي/الوطني وبين الهم الفني/الحضاري وذلك بلجوئه في نهاية الأمر إلى الدرامـا الموسيقية، مع الأخذ في الاعتبار أن سيد درويش عندما كان يتحرك بين مصر والشام، وبين الإسكندرية والقاهرة، إنما كان يتحرك في أرض واحدة وبلد واحد تحت الوصاية العثمانية والاحتلال الأجنبي سواء كان بريطانيا أو فرنسيا. هذا إلى جانب أن قضية التخلص من الاستعمار وطرد المحتلين كانت تمثل الهم الأول والأساسي آنذاك، وكذلك الوعي العام العالي جدا بين كافة طبقات الشعب في ظل الثورة القائمة، كل ذلك أدى بشكل أو بآخر إلى ولادة مشروع وطني حقيقي وإن لم يكن رسميا في دعم إبداعات سيد درويش والترويج لها كنتاج وطني ضخم وسلاح هام وفعَّال.
أما إمام عيسى فقد جاء في ظل ظروف أكثر تعقيدا أملت عليه مهاما متضاربة ومتناقضة: فهو محاصر من فصائل المثقفين السياسيين (التي يدين لها بأشياء كثيرة وبالتالي أعلنت عليه الوصاية وأصبحت عائقا بعد أن كان لها فضل الاكتشاف. ولكن والحق يقال إذا تأملنا هذه القضية في إطار ظروفها فسوف نلتمس الكثير من الأعذار لفصائل المثقفين لأنها كانت هي الأخرى محاصرة)، ومحاصر من النظام مثل كل المثقفين الوطنيين، ومُستثنى من أجهزة الإعلام، ومُجابه بحملة شعواء من إنتاج فني غث ورديء تزامن مع انحطاط في الوعي العام، وبالرغم من كل ذلك لم تقتصر أعماله على الزعيق والشتائم وكشف الفضائح وتعرية النظام السياسي بشكل مباشر، بل تجاوز كل ذلك مع إمكانياته العالية على التعامل مع التراث الشعبي والموشحات الأندلسية والتراث العربي في محاولة جادة للإفلات من عملية الاستقطاب سواء من ناحية الأنظمة السياسية المتعاقبة، أو من فصائل الأحزاب السياسية المتناحرة التي حاولت استخدامه كبوق في مواجهة بعضها البعض وفى مواجهة الأنظمة أيضا. وفي ظل هذه الظروف الصعبة تمكن من القيام بعمل بعض الأعمال للسينما والمسرح، وأعتقد أن ما يُسلَب حاليا من تراثه خير دليل على توجهه إلى الدراما الموسيقية (مسلسل "المال والبنون"، وفيلم "الغريب"، وفيلم "الطريق إلى إيلات"، ناهيك عن الأعمال التي ورد عليها اسمه كمؤلف موسيقى). إن إمام عيسى لم يتوقف عند الفضح الاجتماعي والسياسي في إطاره المحلي، وإنما قام بوضع معادلته الهامة بين الهم الاجتماعي/الوطني وبين الهم الفني/الحضاري في إطار رؤية عامة وشاملة، أي رؤية ليست محلية، وإنما رؤية أممية تنظر بشمول وعمومية انطلاقا من خصوصية موسيقية وتراثية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق